خطت الجزائر هذا الأسبوع مرحلة جديدة في مشروع الخط الحديدي الضخم الرابط بين الشمال والجنوب وصولاً إلى تمنراست، مع الإعلان عن إطلاق إنجاز المقطع الممتد على مسافة 111 كلم بين قصر البخاري والشفة. ويأتي هذا القرار بعد أسابيع قليلة من تأكيد البنك الإفريقي للتنمية (BAD) تمويل شطر الأغواط–غرداية–المنيعة (490 كلم)، الذي يُعدّ القلب الصحراوي للمشروع.
ولكن، وراء مئات الكيلومترات التي يجري إنجازها أو المبرمجة في الجنوب، فإن هذه الـ 111 كلم الواقعة في الشمال هي التي تشكل حجر الزاوية الحقيقي لمجمل المنظومة السككية نحو تمنراست.
حلقة استراتيجية بين الجنوب والشبكة الشمالية
يُعد مقطع الشفة – قصر البخاري، وبفارق كبير، الجزء الأكثر حيوية في مشروع عابر الصحراء بالكامل. فهو الذي يضمن الربط الفعلي للخط الصحراوي المستقبلي بالشبكة السككية الكثيفة في شمال البلاد، حيث تتركز معظم تدفقات البضائع والمسافرين، والموانئ والأقطاب الصناعية. ومن دون هذا الربط، يبقى الخط المتجه جنوباً ناقص الجدوى اقتصادياً، بل ومنفصلاً جزئياً عن مبرره الأساسي.
والمفارقة أنّ هذا المقطع من أقصر أجزاء المشروع، لكنه في الوقت نفسه الأعلى تكلفة لكل كيلومتر، والأكثر تعقيداً من الناحية التقنية. فعلى مسافة لا تتجاوز 111 كلم، يجب على السكة عبور مضايق الشفة وتجاوز فرق ارتفاع يفوق 500 متر للوصول إلى هضبة المدية، التي لا تبعد سوى 21 كلم بخط مستقيم، مع احترام منحدرات سككية لا تتجاوز 3%. تفسّر هذه القيود لماذا يتركز في هذا الجزء وحده جزء كبير من المخاطر التقنية والمالية للمشروع.
مضايق الشفة… تحدٍّ هندسي استثنائي
بلغت درجة الصعوبة المقطع حدّ التفكير، قبل نحو عشرين سنة، في تجنب مضايق الشفة كلياً. وكان الخيار المدروس آنذاك يقضي بالمرور غرباً عبر جندل للالتحاق بالشبكة الشمالية عند مستوى حُسينية. هذا المسار كان يتضمن كيلومترات إضافية، لكنه كان سيقلل بشكل كبير من عدد المنشآت الفنية الثقيلة، وبالتالي من المخاطر والتكاليف.
أما الخيار الذي تم اعتماده اليوم بناءً على الدراسة الأخيرة، والقاضي بالمرور مباشرة عبر مضايق الشفة، فهو يعود إلى مسار استُخدم في الحقبة الاستعمارية لخط حديدي قديم مهجور اليوم.. لكن السياق تغير تماماً؛ فالمضيق تشغله اليوم بنسبة كبيرة الطريق السيار “المعلق” الذي أنجزته شركات صينية، مما يقلّص بشدة من المساحات المتاحة على الأرض.
لذلك، ستعتمد الحلول الحديدية شبه حتماً على نظام من الأنفاق بمدى غير مسبوق في الجزائر، قد يكون الأطول من نوعه في البلاد من حيث الأنفاق المنحدرة، مع ما يرافق ذلك من تعقيدات جيولوجية وطبوغرافية وبيئية.
فكّ العزلة عن مقاطع الجنوب
في هذه المرحلة، يقدّم مقطع بوغزول–الأغواط (250 كلم)، الذي سُلّم نهاية 2023، مثالاً واضحاً على الإشكال. فرغم أهميته التقنية والرمزية، يبقى هذا الجزء “يتيماً”، إذ لا يرتبط اليوم إلا بالخط السككي الاجتنابي للهضاب العليا، ، الرابط بين عين التوتة شرقاً وتيسمسيلت غرباً، من دون منفذ مباشر نحو المراكز الاقتصادية والموانئ الشمالية، ما يجعل آثاره الاقتصادية محدودة.
أصبح الرهان الاستراتيجي للسلطات واضحاً الآن: إعطاء الأولوية لتسليم مقطع قصر البخاري – الشفة، بحيث يدمج كل تقدم للخط نحو الجنوب قطباً صحراوياً جديداً بشكل فوري في شبكة الشمال. وهكذا، يمكن ربط غرداية ثم المنيعة ب فعلياً بموانئ وأسواق الساحل، قبل وقت طويل من الانتهاء من المقاطع الأبعد نحو عين صالح وتمنراست.
إن منطق الربحية التدريجية وتأثير الشبكة هو ما يمنح الـ 111 كلم بين الشفة وقصر البخاري كل أهميتها الاستراتيجية، باعتبارها المقطع الذي سيحدد، أكثر من أي جزء آخر، النجاح الحقيقي للسكك الحديدية الجزائرية نحو الجنوب.

