إستعمال الأسلحة الكيماوية في الجزائر خلال حرب التحرير، هي صفحة أخرى كشف عنها المؤرخ الفرنسي كريستوف لافاي، رغم حضر هذه الأسلحة منذ عام 1925 بموجب بروتوكول جينيف الذي إقترحته فرنسا نفسها.
" لما بدأت الطائرات تدور غادرت القرية مع باقي السكان...أسقطتني مروحية وواصلت الزحف إلى غاية غار بن شطوح هذا. هو غار يستعمله جيش التحرير الوطني كمخبئ، ولما إكتشفه الجيش الفرنسي أحضروا الطائرات لقصفه. كان أخي عبد الرحمان قد إلتحق بي ووجدنا أعداد كبيرة من السكان مختبئة هنا. بدأوا يطلقون غازات سامة، دخان أسود كان يدخل للغار..." هكذا لخص عمار عقون ما عاشه ذات يوم من عام 1959 ولم يتجاوز 15 سنة من العمر، في شريط وثائقي يحمل عنوان "الجزائر: فرق الأسلحة الخاصة". "دخان أسود لما تشتمه يصيبك سعال شديد وتخرج رغاوي من جانبي شفتيك... سقطنا أرضا واحد تلو الآخر" يواصل عمار عقون في شهادته.
محمد لعباسي أيضا عاش نفس الحادثة وهو في سن الثانية عشر. ويقول عن ذلك اليوم المشؤوم "كأن رمال تساقطت علينا لما ضربونا. هذا يبكي وذاك يسعل... لم نكن نسمع بعضنا البعض ولا باستطاعتنا أن نرى شيئا. عمي كان يصرخ ووالدي يقول له "عيسى أشهد"، ولحظات بعدها مات عمي مختنقا"
كشف المؤرخ كريستوف لافاي في التحقيق الذي بثته قناة "أر تي أس" السويسرية (وكان من المقرر أن تبثه قناة "فرانس تليفزيون" قبل أن تؤجل ذلك) أن الجيش الفرنسي إستعمل أثناء حرب التحرير أسلحة كيماوية مخزنة منذ الحرب العالمية الأولى. وبقي رعب الدخان الأسود السام، الذي تحدث عنه عمار عقون، يسكن نفوس كل من عايشوا الحرب العالمية الأولى. فبداية من 1915، حيث إستعمل فيها الجيش الألماني والفرنسي وحلفاؤهما هذه الغازات بكثافة. غاز الكلور، الفوسجين، الخردل... هي غازات ملهبة وخانقة وقاتلة، بلغ عدد ضحاياها مئات الآلاف أثناء الحرب العالمية الأولى. وأصبحت هذه الأسلحة رمز الحرب التي إصطلح عليها ب"الحرب الصناعية". إنها أبشع ما يمكن أن يعرض به الانسان أخيه الانسان.
المسؤول الفرنسي الوحيد الذي وافق على التعليق عن إستعمال هذه الأسلحة في الجزائر هو وزير الدفاع الأسبق ألان ريشارد الذي قال في الوثائقي التلفزيوني "لا أرى أي نزاع يمكن أن تكون فرنسا قد إستعملت فيه الأسلحة الكيماوية في نصف القرن الأخير. وتبقى كل دولة تواجه صعوبة في الاعتراف ببعض الصفحات الصادمة من تاريخها. نحن لسنا في منأى عن هذا". وقضى كريستوف لافاي سبع سنوات في البحث في الوثائق المتعلقة بالأسلحة الكيماوية المستعملة في حرب الجزائر.
"قدمت عدة طلبات للحصول على الأرشيف الذي يتحدث عن الحرب الكيماوية في الجزائر، وكانت كلها مرفوضة بحجج واهية هدفها الوحيد هو منعنا من فهم حقيقة حرب الجزائر". وأمام اصراه على طلب علب الأرشيفن حصل كريستوف لافاي أخيرا على ما يثبت غستعمال الأسلحة الكيماوية في حرب الجزائر. مئات الوثائق تم رفع الطابع السري عليها، مكنته من إعادة تركيب السلسلة. من بين هذه الوثائق مراسلة لقائد الناحية العسكرية العاشرة (قائد الجيش الفرنسي في الجزائر) مؤرخة في 21 ماي 1956. قائد القوات العسكرية يخبر عبر هذه المراسلة كاتب الدولة للقوات البرية بما يلي "لقد زارني عقيد الأسلحة الخاصة وأخبرني أنه حصل على موافقتكم المبدئية على استعمال الوسائل الكيماوية في الجزائر..." وبعدها بثلاثة أشهر أول دراسة حول "السياسة العامة لإستعمال الأسلحة الكيماوية في الجزائر" جاهزة. "التجارب المتعلقة بعملية تسميم المخابئ بإستعمال القنابل الغازية توشك على النهاية، ما يسمح بتحديد المواد القابلة للإستعمال". هذه المواد هي مخزونات من الحرب العالمية الأولى تتضمن غازات الكلوريد ومواد سامة تمر عبر الأنف... وستة أشهر بعد هذه الدراسة، جاء القرار من باريس يقضي بإنشاء "وحدة للأسلحة الخاصة في الناحية العسكرية العاشرة" وهي وحدة متكونة من جنود الاحتياط...
وأحصى المؤرخ الفرنسي 450 عملية عسكرية إستخدم فيها الجيش الفرنسي الأسلحة الكيماوية، خاصة في الولايتين الأولى والثالثة، بهدف جعل المغارات التي يختبئ فيها المجاهدون عديمة التنفس.