بعد أكثر من عام على أزمة دبلوماسية حادة اتسمت بتوترات تاريخية متفاقمة وإجراءات منع متبادلة، وتداعيات ثقيلة على العلاقات الثنائية، بدأت أخيرًا تلوح بوادر لاستئناف الحوار الجزائري الفرنسي. فقد أشار مدير المخابرات الخارجية الفرنسية، نيكولا ليرنر، إلى وجود «إشارات» من الجزائر تدل على رغبتها في الانخراط في تقارب دبلوماسي. وقد يفتح هذا التطور الطريق أمام محادثات تهدف إلى نزع فتيل الأزمة الناجمة عن خلافات سياسية عميقة.
من جانب آخر، فإن الانفتاح الذي أبداه وزير الداخلية الفرنسي، المنتظر زيارته إلى الجزائر قريبًا، يُعد خطوة أولى نحو التهدئة. وإذا تم هذا التحرك الدبلوماسي، فسيأتي في سياق إعادة التوازن الجيوسياسي، حيث تسعى فرنسا إلى تعزيز حضورها ونفوذها في المنطقة المغاربية لمواجهة التحديات الأمنية في الساحل وازدياد نفوذ القوى العالمية الأخرى.
تكلفة اقتصادية باهظة
لقد خلفت الأزمة الدبلوماسية خسائر اقتصادية ثقيلة لكلا البلدين. ووفقًا لتقرير صادر عن لجنة الشؤون الاقتصادية في الجمعية الوطنية الفرنسية نُشر مؤخرًا، فإن توقّف الجزائر عن استيراد القمح الفرنسي — الذي كان يمثل سوقًا رئيسية بكمية تقارب 5 ملايين طن سنويًا — تسبب في صدمة كبيرة لصناعة الزراعة الفرنسية. هذا التغيير أحدث خسارة كبيرة في الفائض التجاري الزراعي الفرنسي وأجبر فرنسا على إعادة توجيه صادراتها نحو أسواق أخرى.
وتواجه آلاف فرص العمل خطر التهديد، خصوصًا في قطاعات السيارات، والصناعات الغذائية، والبناء، إذ إن 450 شركة فرنسية توظف نحو 40 ألف شخص تأثرت مباشرة بالأزمة. كما طالت التداعيات البنوك الفرنسية الكبرى الناشطة في الجزائر مثل بنك "BNP Pribas" و “Société Générale”، مما شكل تراجعًا استراتيجيًا كبيرًا. وقدّرت المصرفية الفرنسية انخفاض المبادلات التجارية بين البلدين بنسبة 25%.
أما الجزائر فقد تأثرت بدورها بهذا الجمود الاقتصادي، حيث تم تعليق العديد من المشاريع الصناعية ومشاريع البنية التحتية التي تشارك فيها فرنسا، مما أعاق جهودها لتنويع اقتصادها المتنامي. كما أدى مناخ عدم اليقين إلى كبح الاستثمارات الأجنبية المباشرة وإضعاف التعاون الأمني والتجاري.
تكلفة إنسانية للأزمة
الجانب الإنساني للأزمة لا يقل خطورة. فمن الجانب الجزائري، أدت صعوبة وتعقيد شروط الحصول على التأشيرات الفرنسية إلى إبطاء حركة الطلاب والمهنيين والعائلات، ما أثّر على آلاف المواطنين. وبالنسبة للفرنسيين من أصل جزائري والعائلات المقيمة بين البلدين، شكل ذلك انقطاعًا في التواصل الثقافي والاجتماعي ومصدرًا لتوترات هوياتية.
وفوق هذا كله، وفي سياق مثقل بتداعيات الجائحة وعدم المساواة الاجتماعية، زادت الأزمة الدبلوماسية من حدة المشاعر المتوترة لدى الجانبين، لا سيما داخل الجاليات المقيمة في الخارج. كما أن سياسات الرد والتشدد أدت أحيانًا إلى تصلب في الخطاب السياسي والإعلامي، مما غذّى مناخ العداء المتبادل.
السياق الجيوسياسي والحاجة إلى الحوار
يشهد السياق الجيوسياسي الحالي تعقيدًا وتوترًا شديدين، مما يجعله مرحلة مفصلية في العلاقات بين الجزائر وفرنسا. فقد اندلعت الأزمة الدبلوماسية التي بدأت في صيف عام 2024 أساسًا بسبب الموقف الفرنسي الجديد من قضية الصحراء الغربية، ودعم باريس الرسمي لخطة الحكم الذاتي المغربية. وبالتوازي مع ذلك، أدى تدهور الأوضاع الأمنية في مالي إلى تعقيد التعاون الإقليمي في مواجهة تمدد الجماعات الإرهابية.
كما أن قرارات الأمم المتحدة والتطورات في منطقة الساحل شكلت تراجعًا في النفوذ الفرنسي التقليدي، لصالح الولايات المتحدة وروسيا والصين، التي تعزز حضورها الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة. هذا المشهد الجيوسياسي يعزز الحاجة البراغماتية إلى التهدئة بين الجزائر وباريس، حتى يتمكن البلدان، بصفتهما فاعلين رئيسيين في المغرب العربي والساحل، من مواصلة التعاون في القضايا المشتركة مثل الأمن، وإدارة الهجرة، والتنمية الاقتصادية، والاستقرار الإقليمي.
وقال مدير المخابرات الخارجية الفرنسية مؤخرًا أنه لاحظ إشارات من السلطات الجزائرية تدل على رغبة في استئناف الحوار. ويبدو أن العودة إلى التشاور باتت ضرورية في ظل ازدياد عزلة فرنسا في المنطقة وخطر تصاعد التوترات.
ويرى نيكولا ليرنر أنه «ليس من مصلحة أي من البلدين البقاء في هذا الوضع من الانسداد». ووصف الأزمة بأنها «بالغة الخطورة، وربما أخطر أزمة منذ استقلال الجزائر عام 1962». وأضاف «لقد بلغنا مستوى منخفضًا للغاية من التعاون العملي في مجال مكافحة الإرهاب".