في كل مرة يحاول فيها أحد رجال المال في الجزائر دخول إحدى أبواب المعترك السياسي، بمفتاح يختار هُو ، قد يسرقه قد يُعيد تقليده، دون إذن مسبق ، أو ضوء أخضر، يبدو أن الأبواب حينها لا تُفتح، بل تُغلق بعنف، لو تم تغير القفل ليلاً، وأحيانًا قد تُدقُّ عليها مطارق التحقيق والسجن. حالات متعددة رسمت هذا النمط، في الجزائر، وتطرح تساؤلات ملحة حول العلاقة الشائكة بين الثروة والنفوذ السياسي في البلاد.
تعود أولى هذه الإشارات البارزة إلى سنة 2016، عندما حاول رجل الأعمال المعروف يسعد ربراب شراء مجمع “الخبر” الإعلامي، في صفقة أثارت جدلًا واسعًا.
يومها، ردّ الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني، عمار سعيداني، خلال تجمع شعبي بولاية عنابة ، برسالة واضحة: “اختر بين المال والسياسة”.
الصفقة صفقة الشراء، أُلغيت لاحقًا بقرار قضائي، ولم يُسجن ربراب حينها، لكنه سيُسجن لاحقًا في 2019، بعد حملة اعتقالات طالت عددا من رجال الأعمال تحت غطاء مكافحة الفساد، لكن بخلفيات لا تخفى أبعادها السياسية على المتابعين.
الأمر لم يقف عند ربراب. علي حداد، رجل الأعمال المقرب من دوائر الحكم خلال عهد بوتفليقة، ورئيس منتدى رؤساء المؤسسات سابقًا، واجه المصير نفسه بعد أن نُسبت إليه تهم تتعلق بتمويل حملة انتخابية للعهدة الخامسة للرئيس السابق بوتفليقة، في خلفية تعود لاستعداء الوزير الاول سنة 2017.
ورغم أن التهم كانت ذات طابع مالي، إلا أن سقوطه جاء في سياق سياسي مأزوم بعد الحراك الشعبي.
واليوم، تتكرر الصورة مع سعيدة نغزة، سيدة الأعمال والرئيسة الكنفدرالية العامة للمؤسسات الجزائرية.
دخلت نغزة معترك للانتخابات الرئاسية المسبقة ، بعد اتصال هاتفي يلح عليها العودة للوطن، الذي غادرتها بعد فضيحة تسجيل هاتفي مع مدير وكالة الأنباء الجزائرية، التي ردت عليها حين راسلت الرئيس عبد المجيد برسالة قالت "أنها لم تصله".
قررت دخول السياسة عبر بوابة الانتخابات الرئاسية المسبقة سبتمبر 2024، لتجد نفسها في قلب عاصفة ادارية أولى بعد رفض ملف ترشحها من طرف السلطة المستقلة لتنظيم الانتخابات، ثم عاصفة امنية قضائية ، بعدما وجهت لها رفقة مرشحين أخرين ، تهم تتعلق بشراء ذمم وجمع استمارات ترشح بطرق غير قانونية، رفقة عدد من رجال الأعمال، ومنتخبين محليين ووسطاء بينهم نجلها.
بعيدًا عن موقفها وموقف غيرها الكثير من رجال المال المتعطشون للواجهة السياسية، من مطالب التغيير الديمقراطي الفعلي في الجزائر التي يطالب بها الشعب، وموقفهم من ملف المعتقلين والقضايا المتعلقة بالحريات الديمقراطية، يبقى هؤلاء رجال الأعمال يختارون دائمًا الاصطفاف إلى جانب السلطة الفعلية، مع كل تغيير طارىء ، لا إلى جانب الشعب في جزئه غير الصامت والمطالب بالتغيير.
فدعمت سعيدة نغزة العهدة الخامسة لبوتفليقة، ثم دعمَت المترشح العسكري، الجنرال علي لغديري، ثم دعمها الجنرال القايد صالح، ثم عادت لدعم الرئيس تبون بعد انتخابه رئيساً للجمهورية ، في وقت كان ابنها الأكبر يدعم المترشح المنافس المباشر لتبون، علي بن فليس.
كما قادت نغزة، رفقة خمسين مكونًا من الأحزاب على رأسها حزب حركة البناء الوطني لرئيسه عبد القادر بن قرينة، ونقابة القضاة والجمعيات، مبادرة “القوى الوطنية للإصلاح” سنة 2020، التي استقبلها الرئيس تبون.
ومن قبل، دعم يسعد ربراب المترشح لغديري قبل أن يُعتقل ويُسجن من طرف سلطة القايد صالح.
الظاهرة أصبحت لافتة: حين يعبّر أصحاب الثروات الكبرى عن نية خوض مغامرة سياسية أو بناء نفوذ إعلامي مستقل، تتحرك أجهزة الدولة، وتبدأ ملفات قضائية تخرج للعلن. لا يمكن إنكار وجود شبهات فساد في بيئة اقتصادية لطالما وُصفت بعدم الشفافية، لكن تزامن المتابعات القضائية مع الطموحات السياسية يطرح سؤالًا مشروعًا: لماذا تفتح أبواب السجون كلما طُرقت أبواب السياسة؟
والتناقض يزيد غرابة إذا علمنا أن البرلمان نفسه يعج برجال أعمال، بعضهم يرتبط اسمه بمشاريع كبرى وشبهات قد لا تقل خطورة. الفرق الوحيد يبدو أنه في التوقيت… أو في الطموح.
في النهاية، ما يجري يضع الجزائر أمام معادلة معقدة: هل هي في طريقها لفصل حقيقي بين المال والسياسة؟ أم أن الحواجز تُرفع فقط عندما يشكل رأس المال تهديدًا محتملاً لمراكز النفوذ السياسي التقليدية؟
يبقى السؤال مفتوحًا، والإجابات تأتي غالبًا لا من خلال التصريحات، بل عبر أروقة المحاكم.