في هذه المساهمة، يتناول المحامي والناشط الحقوقي زكريا بلحرش بالتحليل مضامين القانون رقم 25-14 المتعلق بالإجراءات الجزائية، مبرزًا التحوّل العميق الذي أحدثه في هيكلة العلاقة بين النيابة العامة وبقية الفاعلين في المنظومة القضائية. قراءة نقدية توازن بين متطلبات النجاعة الإجرائية وضمانات العدالة وحقوق الأفراد.
"مع دخول قانون الإجراءات الجزائية الجديد رقم 25-14 المؤرخ في 3 أوت 2025 حيّز التنفيذ، اتجه المشرّع نحو إعادة هيكلة العلاقة بين النيابة العامة وبقية الفاعلين في المنظومة الجزائية، من خلال توسيع صلاحيات وكيل الجمهورية بشكل غير مسبوق. فقد أصبح هذا الأخير محورًا أساسيًا في سير الدعوى العمومية، ليس فقط في مرحلة تحريكها، بل أيضًا في تسييرها واتخاذ قرارات تمسّ بشكل مباشر بحرية الأفراد وحقوقهم الأساسية.
يمنح القانون الجديد لوكيل الجمهورية سلطة إصدار أمر بالإيداع في الحبس المؤقت في حالة التلبس، وهو تطور جوهري بالنظر إلى أن هذا الإجراء كان سابقًا من اختصاص قاضي التحقيق. ويُفترض أن يبرر المشرّع هذا التحول برغبته في تسريع الإجراءات وتحقيق فعالية أكبر في ملاحقة الجريمة، غير أن هذا التوسيع يثير تساؤلات عميقة حول مدى توافقه مع مبدأ فصل السلطات وضمان الرقابة القضائية على قرارات سلب الحرية. إذ أن السلطة الممنوحة لوكيل الجمهورية، وإن كانت مقيدة بوجوب عرض الملف على المحكمة خلال خمسة أيام، تبقى قابلة لسوء التطبيق أو التوسع في التفسير.
كما اعتمد القانون آليات بديلة لتسوية المنازعات الجزائية، مثل الصلح والوساطة والاعتراف بالذنب مقابل تخفيف العقوبة، وهي آليات تندرج ضمن ما يسمى بالعدالة التصالحية. غير أن إدخال هذه الوسائل في المجال الجزائي يطرح إشكالية حقيقية تتعلق بمدى توافر الضمانات الكافية لحماية حقوق المتهمين، خاصة في ظل غياب ثقافة قانونية راسخة لدى المواطنين قد تجعلهم يقبلون بتسويات دون إدراك تام لعواقبها القانونية.
إشكالية المادة 19
وفي إطار البحث عن النجاعة الإجرائية، أتاح القانون إمكانية اللجوء إلى الأمر الجزائي والمثول الفوري كآليتين لتسريع الفصل في القضايا البسيطة أو الجاهزة، وهو توجه يهدف إلى تخفيف الضغط على المحاكم. غير أن السرعة في معالجة القضايا لا ينبغي أن تكون على حساب جودة المحاكمة وضمان حق الدفاع، إذ أن تقييد زمن النظر في الدعوى قد يؤدي إلى إغفال عناصر مهمة في التحقيق أو التقييم القضائي.
واحدة من أكثر النقاط إثارة للجدل في هذا القانون هي تلك المتعلقة بالمادة 19، التي تسمح بنشر صور وهويات المتورطين في بعض الجرائم الخطيرة، مثل المخدرات والتهريب. رغم أن هذا الإجراء يقدَّم على أنه وسيلة لحماية الأمن العام والمساعدة في توقيف الجناة، إلا أنه يطرح إشكالية قانونية تتعلق بقرينة البراءة وحماية الحياة الخاصة، إذ يمكن أن يؤدي إلى التشهير العلني بأشخاص لم يصدر ضدهم حكم قضائي نهائي، ما يشكل مساسًا بالكرامة الإنسانية ويخلق آثارًا اجتماعية لا يمكن تداركها.
كما وسّع القانون من صلاحيات وكيل الجمهورية في تتبع أموال المشتبه فيهم داخل وخارج الوطن، وفرض تدابير تحفظية مثل المنع من السفر والحجز على الممتلكات إلى حين الفصل في القضية، خاصة في جرائم المخدرات والتهريب وتمويل الجريمة المنظمة. هذه الإجراءات تمثل بلا شك أداة فعالة لمحاربة الجريمة المالية، لكنها في المقابل تثير تخوفات من تحولها إلى وسيلة ضغط أو تقييد للحقوق الاقتصادية للأفراد قبل ثبوت الإدانة.
نموذج جديد من العدالة الجنائية
إن القراءة التحليلية لمجمل هذه المستجدات تُظهر أن المشرّع الجزائري اتجه نحو نموذج جديد من العدالة الجنائية يرتكز على السرعة والفعالية، مع تعزيز الدور التنفيذي لوكيل الجمهورية على حساب الدور القضائي التقليدي لقاضي التحقيق. غير أن هذا التحول البنيوي يحمل معه مخاطر حقيقية على مستوى توازن السلطة داخل المنظومة القضائية، ويضع مبدأ المحاكمة العادلة أمام تحدٍّ جديد يتمثل في ضرورة التوفيق بين متطلبات الأمن العام وضمانات الحقوق الفردية.
في المحصلة، يعكس القانون رقم 25-14 توجهاً واضحاً نحو تقوية يد النيابة العامة في إطار مكافحة الجريمة وتحقيق فعالية الردع، غير أن نجاح هذا التوجه يبقى رهينًا بمدى احترام الضمانات الدستورية، خاصة مبدأ المراقبة القضائية وحق الدفاع، حتى لا يتحول التوسع في الصلاحيات إلى توسع في السلطة على حساب العدالة."