في ظل التصعيد غير المسبوق بين إسرائيل وإيران، تتجه الأنظار نحو الدول الواقعة على هامش الصراع المباشر، لكنها معنية بتداعياته الاستراتيجية والاقتصادية.
وتبدو الجزائر كدولة متمسكة برفض التطبيع وبعلاقاتها المتميزة مع إيران، وسط فتور في العلاقات مع عدد من دول الخليج، معنية بمواجهة مزيجاً معقداً من الفرص الإيجابية و الأخرى السلبية، بفعل تموضعها السياسي، مكانتها الطاقوية، وعلاقاتها المتشابكة إقليمياً ودولياً.
فرصة اقتصادية: ارتفاع أسعار الطاقة ومكاسب محتملة للجزائر
مع تصاعد وتيرة الحرب، ارتفعت أسعار النفط الخام بنسبة تجاوزت 10% في الأسواق العالمية، وسط مخاوف من تهديد إيراني بإغلاق مضيق هرمز، الذي تمر عبره أكثر من 20% من تجارة النفط العالمية.
وقد صرّح وزير الطاقة الإيراني بأن “كل الخيارات مطروحة” إذا استمرت الحرب، في إشارة مباشرة إلى احتمال شل الملاحة البحرية في الخليج.
بالنسبة للجزائر، التي تُعدّ أحد أبرز مورّدي الغاز لأوروبا، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن تعطيل إمدادات الطاقة من الخليج يفتح أمامها نافذة لتوسيع صادراتها.
وسبق أن استفادت البلاد بشكل واضح من أزمة الطاقة العالمية عقب الغزو الأمريكي للعراق في 2003، حين ارتفعت مداخيل النفط من 12 إلى أكثر من 24 مليار دولار.

كما استفادة من توتور امدادات الغاز الروسي نحو أوروبا، في أعقاب الحرب الأوكرانية.
اليوم، يمكن أن تعيد الجزائر الكرّة، إذ تلقّت مؤخرًا عروضًا أوروبية لزيادة إمدادات الغاز ، في وقت تسعى فيه أوروبا لتنويع مصادرها بعيدًا عن الخليج.
ووقعت الجزائر وإيران العام الماضي بمناسبة القمة السابعة للدول المصدرة للغاز الطبيعي، على ست مذكرات تفاهم في مجال النفط و الغاز، العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد القائم على المعرفة والرياضة والسياحة والإعلام.

ومن الجزائر، في شهر أفريل من العام الجاري، صرح وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، خلال لقائه بمجموعة من الصحفيين والأساتذة في مقر السفارة الإيرانية بالجزائر، عقب اجتماعه مع رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، أن العلاقات الجزائرية الإيرانية متجذرة، وقائمة على الأخوة والاحترام المتبادل.
وشدد عراقجي على تطابق مواقف الجزائر وإيران حول مختلف القضايا الإقليمية، وخاصة القضية الفلسطينية، معبرًا عن رفضه الشديد للجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة وفلسطين.
كما حذر أنذاك الوزير من وجود مؤامرة مشؤومة تحاك في المنطقة، مشيرًا إلى أن المعلومات التي تصل إلى إيران تفيد بأن الكيان الصهيوني يسعى إلى طرد الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية والقضاء على الشعب الفلسطيني.
وأكد عراقجي أن المقاومة الفلسطينية، رغم تلقيها ضربات، لم تفقد فلسفتها الوجودية، مشددًا على أن إيران لا تتطلع إلى الحرب، لكنها تعرف جيدًا كيف تدافع عن نفسها.
وأوضح يومها وزير الخارجية الإيراني أن الولايات المتحدة تدرك جيدًا أن القدرة الدفاعية الإيرانية تصل إلى أي مدى.
كما أعرب عن شكوكه في نوايا أمريكا بشأن مفاوضات عادلة، مؤكدًا أن المفاوضات التي ستُجرى يوم السبت المقبل لن تكون مباشرة.
منظومات روسية تحت الاختبار… وتحديث عسكري منتظر
في المجال العسكري، سيكون من المفيد، متابعة الجزائر تطورات الحرب باهتمام خاص من زاوية تقييم فاعلية منظومات الدفاع الجوي الروسية أس-400 الأنظمة التي تمتلكها.
وتزامن ذلك مع إخفاق جزئي لإيران في صد الضربات الجوية الإسرائيلية الأخيرة، قد يتيح للجزائر فرصة ثمينة لمراجعة دقيقة لتعزيز عقيدتها الدفاعية ، في ظل مواجهة نوع من المنظومات القتالية التي تعززت بها دول حليفة لإسرائيل، التقدّم نحو أنظمة أحدث أس-500.
يقول خبير عسكري جزائري رفض الكشف عن اسمه إن “الجزائر ستستفيد استخباراتيًا من نتائج هذه المواجهة، لفهم سلوك الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة، للحليف "العربي الإفريقي الإسرائيلي"، وهو ما سينعكس على تطوير استراتيجيات الدفاع الجوي في البلاد”.
تحرك دبلوماسي فعّال ودعم متصاعد لفلسطين
في مجلس الأمن، تقدّمت الجزائر بمشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة، حصل على تأييد 13 دولة من أصل 15، في مقابل اعتراض الولايات المتحدة.
هذا التحرك عزّز من صورة الجزائر كصوت مستقل ووازن في القضايا الدولية، خاصة الملف الفلسطيني، بالرغم من تواصل منع مسيرات مؤيدة لغزة ومنددة بالاحتلال على أراضيها.
كما تكون الجزائر قد تجاوزت بذكاء الضغط الداخلي ، الناتج عن منع هذه المسيرات ، بالسماح بمرور قافلة “الصمود” إلى قطاع غزة، تضم نشطاء من الحراك اشتكوا مسبقاً من المضايقات.
القافلة التي ضمت نحو 1500 مشارك من الجزائر وتونس ، ولاقت صدى إعلاميًا عالميًا واسعًا، بحسب وكالة "أى بي"، وسط تضييق أمني واضح من السلطات المصرية على النشطاء الجزائريين تحديدًا، دون غيرهم من الجنسيات المشاركة.
هذه الحملة الشعبية، إلى جانب المبادرات الرسمية، أعادت الجزائر إلى صدارة الدعم المغاربي والإفريقي الشعبي والدبلوماسي للقضية الفلسطينية، مقابل تراجع نسبي لدور الدول العربية المطبّعة مع إسرائيل.
تحالف هادئ مع طهران وسط برود خليجي
و مساء اليوم الإثنين، تلقى وزير الدولة، وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الإفريقية، أحمد عطاف، اتصالا هاتفيا من قبل وزير الشؤون الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، عباس عراقجي.
وخلال هذا الاتصال، تم إطلاع الوزير أحمد عطاف من قبل نظيره الإيراني على تطورات الأوضاع الناتجة عن العدوان الإسرائيلي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكذا على التداعيات التي خلّفها هذا العدوان ولا يزال يخلّفها على أمن المنطقة وسلامتها.
فيما جدّد الوزير أحمد عطاف التأكيد على موقف الجزائر الذي يدين هذا العدوان والذي يؤكد، في ذات الحين، على حتمية تمكين مجلس الأمن الأممي من الإضطلاع بالمسؤوليات المنوطة به في فرض احترام قواعد القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة من أجل صدِّ الاعتداءات الإسرائيلية متعددة الجبهات التي أدخلت المنطقة برمتها في دوامة من العنف واللاأمن واللااستقرار.
وقبل التصعيد بأيام، أجرى الرئيس عبد المجيد تبون اتصالًا بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي لتبادل التهاني بعيد الأضحى، ضمن مؤشرات على دفء العلاقات الثنائية.
ويُنظر لهذا التقارب كجزء من توجه استراتيجي جزائري لتعزيز التنسيق مع إيران دون الدخول في تحالفات مغلقة، وهو ما قد يتيح لها هامشًا للمناورة الإقليمية، خاصة في ظل تراجع نفوذ بعض دول شرق أوسطية داخل الاتحاد الأفريقي.
في حين تعمل المغرب ودول خليجية على ترجمة هذا التقارب إلى "خطر" يهدد شمال إفريقيا والمنطقة المغاربية ، بعد إطلاء إتهامات بدعم جبهة بوليساريو الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي المطالب باستقلال.
وعلى صعيد المنظمات القارية، كثّفت الجزائر سابقاً جهودها لمنع قبول إسرائيل عضواً مراقباً في الاتحاد الأفريقي، مستفيدة من زخم التضامن الدولي و تنامي التأييد الشعبي في القارة السمراء لحق الفلسطينيين.
في المقابل… مخاطر اقتصادية من اضطراب الأسواق
رغم الفوائد المحتملة من ارتفاع أسعار المحروقات، إلا أن الجزائر معرضة لصدمة تضخمية إذا طال أمد الحرب. فارتفاع أسعار الشحن البحري، والتأمين، وقطع الغيار قد يؤدي إلى زيادة فاتورة الواردات.
كما أن أي ركود اقتصادي عالمي ناتج عن الحرب قد يخفّض الطلب على الطاقة، ويؤثر سلبًا على مداخيل الجزائر.
تقول تقارير اقتصادية دولية إن الجزائر، مثل غيرها من الدول، ستواجه صعوبة في الحفاظ على ميزانها التجاري في حال حدوث أزمة مالية أو تباطؤ اقتصادي عالمي.
تحديات دبلوماسية مع واشنطن ودول الخليج
الدعم العلني الجزائري لفلسطين وإيران قد يُنظر إليه في بعض العواصم الخليجية والأوروبية على أنه اصطفاف غير مرحب به.
فالعلاقات الجزائرية–الأمريكية تشهد إعادة بناء حذر ، منذ تطبيع المغرب مع الاحتلال الإسرائيلي باتفاقات أبراهام، و إعلان ترامب لدعم المقترح المغربي حول ملف الصحراء الغربية، في حين أن الاستثمارات الخليجية لا تزال دون المستوى المتوقع بسبب تباين الرؤى السياسية.
ويرى مراقبون أن موقف الجزائر “المبدئي”، رغم شعبيته، قد يعرّضها لعزلة تكتيكية أو ضغوط خفية في بعض الملفات الاقتصادية أو التجارية.
انعكاسات داخلية: وحدة وطنية وضرورة تعزيز الجبهة الداخلية ؟
حتى الآن، قد ظهر أن الحرب في أيامها الأولى قد لعبت دوراً في توحيد الخطاب السياسي الجزائري حول مركزية القضية الفلسطينية، في ظل إعادة قافلة الصمود القضية للواجهة الشعبية والسياسية.
في حين لا تزال الجزائر تعاني من تصدع الجبهة الداخلية، بفعل استمرار قمع المعارضة السياسية ومضايقتها وتواصل اعتقال نشطاء الحراك ونشطاء مواقع التواصل الإجتماعي وسط تراجع لهوامش حرية الصحافة والتعبير ودور المنظات الحقوقية غير الحكومية.
فخلال ادائه اليمين الدستورية ، أعلن الرئيس عبد المجيد، إطلاق مبادرة لحوار وطني جامع ، حدد تاريخ بنهاية السنة الجارية، أعقبه إقرار مشروع قانون التعبئة المنظم لظروف استثنائية قد تمر بها البلاد كالحروب.
معادلة الربح المصحوب بالخطر
بين ارتفاع أسعار الطاقة وفرص التموقع الدبلوماسي، وبين تهديدات اقتصادية وأمنية كامنة، تجد الجزائر نفسها أمام معادلة دقيقة.
الحرب الدائرة قد تُنتج مكاسب ظرفية مهمة، لكنها أيضاً تحمل في طياتها مخاطر جيوسياسية معقّدة، تتطلب يقظة دبلوماسية، توازنًا داخليًا، وتنسيقًا أمنيًا متقدماً.
الجزائر تراهن على موقعها الأخلاقي والتاريخي، لكنها مطالبة كذلك بإدارة حساسة لعلاقاتها مع الشركاء الغربيين والعرب، دون التفريط بمواقفها الثابتة، ولا مصالحها الاستراتيجية.