B E R H G A M

T N E G R E M E

أحدث الأخبار

حكايات الحرب.. عامان من الأسئلة المؤجلة ولعنات النزوح

Par محمود بشير مدى مصر
11 أكتوبر 2025
© WFP/Ali Jadallah آلاف الفلسطينيين يُضطرون إلى النزوح من رفح بعد الغارات الجوية الإسرائيلية على المحافظة الجنوبية في قطاع غزة.

سيصل الموت في غزة إلى نهايته، الآن، أو في وقت لاحق، لا بد من نهاية للإبادة المتصلة منذ عامين. ولكن ماذا سنفعل بعد توقفها، هل سنبقى في البلاد أم سنغادرها بحثًا عن حاضر ومستقبل أفضل؟ بهذه الأسئلة المؤجلة، ومن داخل خيمة نزوحه في جنوبي دير البلح، في وسط القطاع، استقبل أحمد حمو بداية سنة ثالثة من العدوان الإسرائيلي، دون رؤية مستقرة أو إجابات واضحة على أسئلته التي تتراكم خلال مطاردته اليومية لاحتياجات أسرته الأساسية، في منطقة نزوح «لم يتأقلم عليها بعد».

حمو، الذي بدأ قبل أيام فصلًا جديدًا في نزوحه عن منزله في حي الكرامة، شمالي مدينة غزة، التي تتمدد فيها قوات الاحتلال، قال إن من بين أسئلة كثيرة مؤجلة احتلت عقول غالبية أهالي القطاع، ظل السؤال الجوهري: «خلصت الحرب، إيش راح نعمل؟ ومش عارف هل أضل في البلد أو أطلع؟»

منذ مطلع العام، عقب اتفاق وقف إطلاق النار، الذي بدأ في منتصف يناير وانهار في منتصف مارس الماضي، بدأ الشاب الثلاثيني، خريج كلية التجارة، بحثه عن مخرج يخلّصه من واقع مرير لم يشارك في صناعته، ساعات عديدة من يومه تنقضي في تصفح الإنترنت، بحثًا عن فرص يمكنه التقدم لها، أملًا في الخروج من المقتلة، وإن بدا ذلك مستحيلًا، مع إغلاق إسرائيل للمعابر، وفرضها منع السفر العام على أهالي القطاع، «في ناس بتطلع عن طريق المنح التعليمية، أو عن طريق المؤسسات أو المشاركة في مؤتمرات، وبطرق تانية مختلفة، لكن محدش بيقلك كيف».

أوشك حمو على حسم إجاباته، لتعويض خسارته الناجمة عن حياته المعطلة منذ عامين، ولكن أسئلة أخرى باغتته: «الطلوع مش سهل، وما في خيارات، هل راح يتساهلوا معنا في موضوع الفيزا؟ هنطلع من تحت الصفر، وهيكون في تكاليف وصعوبات»، وهي أسئلة تظل دون إجابة، جنبًا إلى جنب مع أسئلة أخرى عن نهاية الحرب التي قلبت حياته رأسًا على عقب، «الحياة بدها تمشي، لكن هل ضايل إلنا بيت نقعد فيه؟»

أسئلة المستقبل، التي «يمكن إجابتها بعد توقف الحرب ونرتاح شوي»، تسيطر على حمو وتمنحه أملًا يضيء وينطفئ، وفقًا لأحواله الآنية وسط أيام ملطخة بالرعب وغبار الغارات. وفضلًا عن معايشته أهوال الحرب منذ بدايتها، بكل متاعبها في «حياة كلها أزمات»، يظل حمو «واحد من الناس هطلع ومش هضل بالبلد»، خصوصًا بعد نجاته من ملاحقة المسيرات الإسرائيلية له بقنابلها في شوارع «الكرامة»، أثناء نزوحه الأخير، قبل أن ينجو بجسده، دون أمل بالعودة إلى البيت مرة أخرى، «فجأة قالوا يلا انزح، بعد ما وصلت الدبابات لمنطقتنا، نزحت والكواد كابتر طايرة فوقي، أمشي تمشي، أوقف تقف، بعد شوي سمعت صوت تكّة، ركضت بسرعة، وبعد خمس ثواني، سمعت الانفجار».


ظلّت الشابة رولا دلول وعائلتها في مسكنها وسط حي الزيتون، شرقي مدينة غزة، حتى أسابيع قليلة، قبل أن تنهي القذائف الإسرائيلية التي سقطت على طوابقه العليا، صمودهم داخل الحي الذي لم يغادروه حين اجتاحه الاحتلال في بدايات العدوان، وحين غادروه هذه المرة رفضوا مغادرة المدينة نحو جنوب القطاع، لقطع الطريق أمام فكرة التهجير داخل أو خارج القطاع.

في الليلة التي سبقت نزوحهم، «كانت العمارات بتنزل حوالينا، وقررنا إنه راح نطلع إذا ضلينا عايشين للصبح، اختبرنا الموت ومرينا بلحظات كان قريب منا، وهادا أصعب إشي، أصعب من النزوح وأصعب من الجوع وأصعب من أي إشي تاني»، تقول دلول، مُضيفة أن ما يشغلها تجاه الحرب هو ما مضى من لحظات وأيام كابدت خلالها الجوع والتشرد والقصف، أكثر من انشغالها بما هو مُقبل من أيام مجهولة التفاصيل.

خلال أيام الحرب الطويلة، ولملء الوقت وسط الانعزال عن العالم، نتيجة انقطاع خدمات الإنترنت والاتصالات لأشهر عن شمالي القطاع، عملت دلول مع الأطفال المصابين بصدمات نفسية، من خلال الغناء الجماعي والعزف على الجيتار، فضلًا عن قراءة القصص داخل نقاط التعليم المؤقتة في المدينة.

ووسط الغناء والرقص مع الأطفال تظل الأسئلة المؤجلة ذاتها تداهم رولا، «بدنا سنين نقعد نحكي عن اللي صار فينا، ولكن بشكل عام، الحرب خلتنا كلنا مرهقين نفسيًا، تفكير دائم وين بدنا نروح؟ إيش بدو يصير فينا؟ ومن وين بدنا نجيب أكل؟ معناش رفاهية إنه نحزن، أو نلاقي وقت نفرح ونحزن، لأنه مشغولين دائمًا في النجاة».

مرت أيام العدوان على أسرة دلول والرجال منشغلون بتدبير الغذاء والمياه من أماكن تبعد عن منطقة نزوحهم، فضلًا عن توفير الحطب لإيقاد نار الطهي، فيما كانت مهام النساء محصورة بالطهي على نار الحطب، بجانب غسيل الملابس يدويًا، «مرينا بفترات كتير ما كانش عنّا ميّه، وكان أبويا وأخواتي يضطروا يروحو يجيبو ميّه من أماكن بعيدة، وحاليًا بنغسل على إيدينا، وإذا بدنا نطبخ أو نشرب كاسة شاي أو قهوة، كله على النار».

مثل كل أهالي القطاع، كان نزوح عائلة دلول، في بداية الحرب اعتقدت الأسرة أنها تمر بأصعب أيامها، لتدرك لاحقًا أن ما هو قادم أصعب، «بنضلنا نقول الحرب مؤقتة بس مش راضية تخلص، وخلال النزوح صعب تاخد راحتك (..) وفي مشاكل على كل إشي، الميّه، المساحات والخصوصية، والناس من الضغط بتتفشش في بعض، فما حدا فينا بيقدر ياخد راحته، مرت علينا أيام أكلنا خبز معفن، وأطعمة منتهي صلاحيتها، كنا بندوّر على أي حاجة ناكلها».

بجانب الخوف من الموت قصفًا، واجهت عائلة دلول المجاعة في شمالي القطاع، في محطات مختلفة من العدوان، «أكلنا عبارة عن معلبات حمّص وفول ونواشف، مرت أيام، شهر كامل غدانا رز بدون بهارات بدون إشي عليه»، حسبما أفادت الشابة، مُضيفة أن «طول فترة الحرب ما كانش في خضار ولا فواكه، ولا لحوم ولا منتجات ألبان، وإن توفرت فهي بأسعار خيالية، آخر مرة أكلت لحمة في شهر رمضان، كانوا يحنّو علينا في بعض الأحيان ويدخلولنا لحوم، معظم الأيام فطورنا حمص يا إما فول، وفي ناس تانيين فطورهم هو نفسه غداهم».


بعد عامين من الإبادة، ما زالت لحظات الحرب الأولى عالقة في ذهن فداء أبو مريم، النازحة من أقصى شمالي القطاع، والتي انتهت محطات نزوحها في مدينة دير البلح، فيما لا يزال تصورها عن نهاية الحرب غائبًا عن أفكارها في الوقت الراهن، إدراكًا منها أنها متجهة نحو «أسلوب حياة ممنهج وطويل الأمد»، بينما كانت تحلم يوم بدأت الحرب، بيوم عطلة أسبوعية، يبدأ بلقاء مع الأصدقاء وينتهي بحضورها حفل تخرج ابن أخيها من دراسته الجامعية.

تجدد نزوح أبو مريم خلال العدوان عدة مرات، كان آخرها بعد بدء عملية اجتياح مدينة غزة خلال الأسابيع الماضية. بعدما ظلت إعادة تجربة النزوح أكبر كوابيسها خلال فترة التهديد الإسرائيلي باجتياح المدينة، والذي أصابها بمزيد من الأسئلة: ماذا تمتلك لمواجهة رفض أو قبول النزوح؟ لتصل إلى مرحلة «لا إجابات» فيها. ومع ثُقل إحساس الاستسلام لأوامر جيش الاحتلال بالخروج، داهمها سؤال: لماذا ننزح؟ فرواغته ممازحة نفسها: لأن «الجيش لا ينزح».

كان المجهول ملازمًا لأبو مريم كشعور خلال محطات النزوح متعدد اللعنات، وعلى رأسها لعنة أنها «بلا بيت» بعد أن وجدت نفسها أسيرة صدفة ألقتها في منزل أقاربها في غربي مدينة غزة، بعد تدمير إسرائيل منزلها في بيت حانون، في رابع أيام العدوان، معلنًا بدء رحلة بحثها عن أماكن تمنحها «شعور البيت»، والتي هربت خلالها من العيش في خيمة رفضتها واعتبرتها لعنة استسلام أخرى، لا تحفظ ما تبقى لها من «آدمية»، قبل أن تقرر الاستسلام للموت بدلًا من أن «تستسلم للخيمة».


وعد أبو زاهر، النازحة من منزلها في شمالي القطاع، إلى خيمة في جنوبه، اعترفت أن التفكير في نهاية للحرب، بقدر ما هو مأمول، إلا أنه يضعها في حالة نفسية صعبة، تتطلب أيامًا وأسابيع للتخلص من سطوتها والتعافي من آثارها، فضلًا عن توالد الأسئلة مستحيلة الإجابة في رأسها، «دائمًا بفكر ماذا بعد؟ وين أنا؟ مين أنا؟ كيف بدي أكمل؟»، مُضيفة أنها تقف عاجزة عن التفكير في أغلب الأحيان، نتيجة لتعقيد المشهد ذاته أمامها، «التفكير بيقتلني نفسيًا وبخليني هزيلة جسديًا».

ورغم الصورة المستقبلية المشوشة، تظل محاولات أبو زاهر للتأقلم مستمرة، «حتى لو تعبانين بنصنع من اللاشيء شيء، وبنكمل»، حتى أنها في حالات عدة لا تستطيع الفصل بين صبرها على ظروف الحرب، وبين العجز الناتج عن معاناتها. «انتا راضي؟ متأقلم؟ صابر؟ ولا مُجبر؟ بتمر فيهم كلهم، مرة بتلاقي حالك صابر، ومرة مضطر، لا إحنا أبطال ولا أساطير.. بدنا نكمل ونعيش».

لإنجاز مهام عملها كصحفية، تقصد أبو زاهر مقهى يفتح أبوابه قرب موقع نزوحها في مدينة خان يونس، وفيما يلتف العشرات حول طاولات المقهى، تجد أبو زاهر قصصًا متناثرة حول كل طاولة، لأفراد اجتمعوا لشرب الشاي، أو لقضاء بعض الوقت بعيدًا عن متاعب الحصول على الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، «كل طاولة حكاية، ناس متزوجة وناس بتحب وناس بتشتغل»، فيما «على يمينك وشمالك، خيام وناس تعبانة، وناس بتدور على الميّة وناس بتجري على التكية»، حسبما قالت، مُضيفة: « بعد سنتين حسيناهم مليون سنة، في ناس بتحاول تعيش بعد ما انسرقت منها الحياة، وبتحاول تقاوم مقاومة من نوع آخر».

خارج مساحة السياسة والحرب، نفدت طاقة المقاومة ذاتها لدى أهالي القطاع، ولم تعد كما كانت، رغم الأمل بنهاية قريبة للحرب المستمرة، وفق أبو زاهر، التي قالت إن «الناس لما كانت تسمع إنه في هدنة، تلاقيهم حاملين الطبول ومحتفلين بالشوارع وزغاريد»، بينما انحصر التفكير في الوقت الراهن على تلبية احتياجاتهم الأساسية، دون وجود لآفاق أبعد من ذلك، وأضافت: «هلأ الناس بتقول مش مشكلة، تظل الحرب بس بدي حد يطعميني ويشربني، تظل الحرب لكن افتحوا المعبر وسفروني (..) حتى الناس المهتمة بأمور السياسة بيهربوا منها بأي طريقة».

«المستقبل غامض، بتمنى أغمض عيني وأفتحها، يقولو الحرب خلصت والحياة رجعت، لكن الواقع اللي عايشينه بيقول: لأ، لسه هنقضي عُمر وسنين نصلح بالأشياء اللي ضاعت منا ماديًا ونفسيًا»، تقول أبو زاهر إنه عقب عامين من العدوان «يصبح العادي طموحًا»، حتى بات المطلب الأساسي هو مجرد العيش، أو المغادرة للنجاة بما تبقى، بخلاف «الناس اللي متشبثة بحياتها رغم فقدان بيوتها، وبيقولوا الحمد لله أهلنا موجودين، وناس فقدت عيلتها وبتقول بدنا نعيش عشان اللي ضايلين».

ولم تعد أسئلة، مثل «أين كنا، وأين وصلنا؟»، تشغل مساحة كبيرة من تفكير الأهالي بعد خسارة كل شيء، حتى باتت ذكرى بداية الحرب «ذكرى هامشية»، فيما أصبح السفر خارج القطاع يهيمن على أفكار غالبية الأفراد، بعد ما «كبرنا على حب الأرض والبلد وأصلًا بنعرفش غيرها، لمين بدنا نسيب المكان؟ الارتباط في المكان تعقّد، عقلي بيقولي حياتك ومستقبلك وأولادك، وقلبي بيحب المكان ويهواه، هادا هو الصراع اللي تركتنا الحرب نواجهه»، تقول أبو زاهر، مُضيفة: «مش راضيين يفتحولنا إشي، أيام الحرب في سوريا فتحولهم البحر، طيب يفتحولنا أي منفذ خلينا نشوف حياتنا».

وبينما يسيطر «الاكتئاب وفقدان الشغف والخمول» على حياة أبو زاهر التي فقدت كل مساراتها، أضافت الشابة أنها وأقرانها «عايشين على الأمل، إنه ننطلق عوضًا عن السنتين اللي راحوا، ولكن على أرض الواقع، كيف تعوض اللي ماتوا؟ وفي جيل كامل من الأطفال كبروا في بيئة المخيمات والشوارع، وما عندهم أدنى فكرة عن الحياة الطبيعية».


نشر المقال في 7 أكتوبر على موقع مدى مصر ضمن نشاط ”شبكة المواقع الاعلامية المستقلة بخصوص العالم العربي“، وهي إطار تعاون إقليمي تشارك فيه ”السفير العربي“، و”مدى مصر“، و”مغرب اميرجان“، و ”بابل ماد“ و ”ماشا الله نيوز“، و”نواة“، و”حبر“ و”أوريانXXI“.