أبرزت مساءلة وزير المالية عبد الكريم بوزرد، خلال مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2026، عودة توتر قديم إلى الواجهة. فقد ندد عدد من النواب بعجز غير مسبوق وبنظام دعم يلتهم جزءاً كبيرا جدا من الميزانية. وطالب بعضهم بإقصاء الأسر الميسورة والانتقال إلى نظام موجه للفئات المستحقة فقط. هذا النقاش أعاد إلى الأذهان سابقة فكرية، هي عمل مركز التفكير المدني "نبني" (نبني جزائرنا على أفكار جديدة)، الذي اقترح سنة 2018 إصلاحاً شاملاً لنظام الدعم. وفي تلك الفترة، طلبت الحكومة الجزائرية المساعدة التقنية من البنك الدولي لإصلاح منظومتها، غير أن كل شيء توقّف مع اندلاع حراك فبراير 2019 وبداية دورة سياسية جديدة.
ثقل الدعم العمومي والانحراف المالي الكلي
يُظهر مشروع قانون المالية لسنة 2026 نفقات تبلغ 17.636 ألف مليار دينار جزائري، أي ما يعادل 42٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ويُتوقع أن يتجاوز العجز 25٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى غير مسبوق. أما الدين العمومي، الذي ظلّ لفترة طويلة تحت السيطرة، فقد بدأ بالارتفاع ليستقرّ عند نحو 45٪ من الناتج المحلي الإجمالي وفق التقديرات المتوفرة، ما يمحو الحالة التاريخية لوضع مالي للدولة يتميز بديون محدودة ومخاطر منخفضة.
تبلغ التحويلات الاجتماعية المدرجة في الميزانية ما بين 5100 و 6000 مليار دينار، أي ما يعادل 12 إلى 14٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ويرى النواب في ذلك نواة صلبة من الجمود المالي، إذ يستنزف النظام جزءاً كبيراً من الموارد العمومية مقابل فعالية مشكوك فيها.
لكن هذا التشخيص لا يغطي سوى جزء من الكلفة الحقيقية. فوفقاً للمقاربة الموسعة التي اعتمدها مركز "نبني" — والتي تشمل الدعم الضمني المرتبط بأسعار الطاقة والمياه والغاز والخدمات العامة المُدارة إدارياً — ترتفع الفاتورة أكثر. ويقدّر صندوق النقد الدولي هذا الدعم الضمني بحوالي 8٪ من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2026. وعند جمعه مع التحويلات المباشرة، يصل المجموع من 20 إلى 22٪ من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل من 8400 إلى 9300 مليار دينار. من هذا الحجم المالي تنبع المخاوف البرلمانية: خُمس الثروة الوطنية تُستهلك في نظام ضعيف الأثر من حيث العدالة التوزيعية. وفي المقابل، يتعيّن على الدولة تمويل عجز هائل ودين متسارع. لقد أصبح نظام الدعم عاملاً مركزياً في استدامة الميزانية، مع أثر إزاحي (أي تأثير الدعم في إبعاد الموارد عن الاستثمار العام) واضح على الاستثمار العمومي.
مقترحات "نبني": توجيه تدريجي أو دخل أساسي شامل
في عام 2018، وضعت مجوعة "نبني" سيناريوهين للإصلاح. الأول، يقوم على التوجيه التدريجي للدعم من خلال تسجيل طوعي للأسر ثم استبعاد تدريجي للأكثر يسراً مع تحسن قدرات التحقق، بهدف تركيز الدعم على ال 40٪ من الاسر الاكثر هشاشة. بلغت كلفته التقديرية 3.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي عند الإطلاق، ثم 2.4٪ في المرحلة المستقرة، في حين أن إلغاء الدعم المعمم كان سيوفر 7 إلى 8 نقاط من الناتج المحلي الإجمالي من الحيز المالي.
السيناريو الثاني اقترح "الدخل الأساسي الشامل" (Revenu Universel) لكل فرد، بمعدل 2400 دج للبالغين و1200 دج للأطفال (أسعار 2017). وقدرت كلفته بين 5.5 و6٪ من الناتج المحلي الإجمالي، أي أقل من كلفة النظام الحالي. ويهدف هذا الدخل إلى تعويض الارتفاع التدريجي في الأسعار الإدارية مع إزالة التشوهات التي يخلقها الدعم الطاقوي الذي تستفيد منه الأسر الميسورة بالدرجة الأولى. جاءت هذه المقترحات في سياق أزمة: إذ كشفت انهيارات أسعار النفط بين 2014 و 2016 عن هشاشة هيكلية لنظام الدعم الموروث من العقود السابقة. وخلص مركز "نبني" إلى أن إصلاحاً سريعاً ضروري لتفادي تعديلات اقتصادية أكثر قسوة.
مساعدة البنك الدولي: خبرة فُعِّلت... وإصلاح توقّف
في تلك المرحلة، طلبت وزارة المالية مساعدة البنك الدولي لوضع هيكلة شاملة للإصلاح: تشخيص الكلفة الحقيقية للدعم، تصميم آلية تحويلات نقدية تعويضية، إعداد أدوات الاستهداف الاجتماعي، وتحديث الأنظمة الميزانية. واستُخدم إطار تقييم إصلاح دعم الطاقة (ESRAF) لتقييم أثر الدعم الطاقوي واقتراح السيناريوهات. لكن المسار توقّف بعد فبراير 2019. فالنظام السياسي المنبثق عن انتخابات ديسمبر 2019 جمّد الإصلاحات الهيكلية الجارية، ولم يُستأنف الملف. ولم يُنفّذ أي نظام عملي — لا قاعدة بيانات موحدة للأسر، ولا هيكل تحويلات، ولا آلية تدريجية لتعديل الأسعار. لقد ضاعت الفرصة.
إصلاح مستبعد اليوم
إعادة فتح هذه الورش تواجه تحديات سياسية وتقنية ومؤسسية: لا توجد أي إشارة إلى إرادة حكومية لإصلاح نظام الدعم، ويتطلب النظام قدرة إدارية قوية باتت اليوم أكثر هشاشة، وما تزال الحوكمة المالية خاضعة لمنطق الطوارئ وردّ الفعل لا للتخطيط الاستراتيجي. النتيجة: ظلّ "نبني" ما يزال يخيم على قبة المجلس الشعبي الوطني (البرلمان)، دون أن يظهر فاعل قادر على تحويل عشرية من التشخيصات إلى سياسة عمومية فعلية.