كان من المفترض أن يكون يوم 8 مايو/أيار من هذا العام يوم احتفال لعائلة بوبترة. كان زكرياء، ابنهم البكر، سيحتفل بعيد ميلاده التاسع والعشرين. لكن صار هذا اليوم يوقظ ألمًا عميقًا، ألم الابن الذي اختفى في البحر في 21 سبتمبر 2020.
في رواية مؤثرة، يروي والداه قصة الشاب اللامع الذي كان يحلم بمستقبل أفضل، والذي انقلب مصيره رأسًا على عقب في مياه المتوسط.
عند غروب شمس يوم 21 سبتمبر 2020، كان زكرياء بوبترة البالغ من العمر 24 عاماً متوتراً بعض الشيء. في منزله الكائن بعين البنيان، على الساحل الغربي للجزائر العاصمة، والمطل على البحر الأبيض المتوسط، يسارع الطالب في قسم اللغات إلى حزم حقيبته استعدادًا للسفر. بعض الأغراض الشخصية التي جمعها على عجالة، وقليل من الكعك وهو مستعد لمغادرة المنزل. ”أنا ذاهب في مهمة إلى أدرار, في جنوب البلاد“، هكذا قال لوالديه، ولم يكن في حسبانهما أن ابنهما المترجم للوفود الأجنبية سينضم إلى مجموعة من ''الحرّاقة'' في الحمامات غير بعيد عن بيته، على أمل الوصول إلى الضفة الأخرى من البحر.
”عرضت عليه زبادي فقال إنه تناول واحدة بالفعل. سألته إن كان يريد أخرى, فوافق. ثم سألته: ”هل تريد بعض مصروف الجيب؟ فأجابني: ”لا يا أبي، شكراً، عندي. قلت له مازحاً: ” على أي حال, كنت سأعطيك 100 دج فقط! كانت تلك آخر كلماتنا"، يقول والده، حسن، وهو صاحب متجر، وقد ارتسم الحزن على وجهه.
زكرياء لا يطلب من والديه المال أبدًا. يقول والده: ”لقد بدأ استقلاله المالي في سن مبكرة جدًا“. ربما كان هذا الاستقلال المالي والراحة التي كان يتمتع بها في منزل والديه يخفي وراءه خططه للرحيل.
تقول والدته صبرينة بوعباس ودموعها تنهمر: ”لم يكن معه سوى القليل من البسكويت وحذاء رياضي جديد لم يستعمله من قبل“. يتحجج زكرياء بأنه لا يريد أن تكون حقيبته ثقيلة جدًا وأنه يستطيع شراء كل ما يحتاجه في المكان، بمجرد وصوله إلى أدرار. لكن رفضه للتحضير كالمعتاد كان بمثابة مفاجأة لوالدته التي لم تكن تعلم أنه يستعد للانطلاق على متن قارب إلى أوروبا. ”لقد أثار ذلك فضولي قليلاً، خاصة وأنه كان يرفض تناول العشاء. عادة ما يأكل ابني جيدًا لأنه رياضي“.
عندما توقف زكرياء عن الإجابة
في صباح اليوم التالي، ظنًا منه أن ابنه كان يستريح في الفندق، قرر ” حسن“ عدم الاتصال به حتى وقت متأخر من بعد الظهر. لكن هاتف زكرياء كان مغلقًا. حاول عدة مرات قبل أن يجيب أحدهم، وسُمعت أصوات، لكن ليس صوت ابنه. كان قلقاً. ” "أغلقت المحل. قلت في نفسي أن مكروهًا قد أصابه في الصحراء"، يقول معترفًا. فاتصل بابن أخيه، علي، الذي كان مقربًا جدًا

من زكرياء. أخبره علي بالحقيقة: ”يا عمي زكرياء حرڤ، (حرفيًا، غادر بطريقة غير شرعية). لقد غادر في بوطي (المصطلح الجزائري لقارب صغير(.
كان الأب في تلك اللحظة مذهولاً من هول الخبر. نظر إلى البحر الهادئ وتنهّد قائلاً: ”لا حول لي ولا قوة، بدأت أصلي من أجله“. لكنه رفض إخبار زوجته التي كانت تتساءل عن سبب عدم اتصال ابنها بالمنزل كالمعتاد.
في وقت لاحق، أكد أب آخر كان ابنه في نفس القارب الذي كان فيه زكرياء، المعلومة: لقد غادر مع اثني عشر شابًا آخر من شاطئ في الحمامات بلدية مجاورة لعين البنيان. كان الانتظار لا يطاق. ”في ذلك المساء، وبينما كنت نائمًا بسلام، كان ابني يصارع الأمواج“. ”مجرد التفكير في ذلك يمزق قلبي.”
أمل زائف، وألم حقيقي
في اليوم التالي، انتشرت شائعات عن وصول القارب إلى إسبانيا. وهذا ما أعطى الأب المتوتر أملاً ضئيلاً، حيث كان يعاني من صعوبة تفسير سبب قرار ابنه خوض هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر. ”نشر أحدهم مقطع فيديو على الشبكات الاجتماعية يقول فيه إنهم وصلوا إلى إسبانيا. فاعتقدت أن ابني موجود في مركز احتجاز بسبب جائحة الكورونا. وقد غذى ذلك آمالي لعدة أيام “.
ولكن مع مرور الوقت وعدم توفر معلومات موثوقة، بدأ تفاؤله يتراجع إلى اليأس. عندما أصرّت زوجته على معرفة أخبار ابنه، اعترف أخيرًا: ”زكرياء ليس في أدرار، لقد أبحر“. صدمة. انهارت. تقول: ”انتابني شعور بأنه في خطر، ، شعور غريب كان يسكنني “. ويضيف الأب: ”عندها بدأت دوامة الألم“.
إيماءات استباقية ووداع صامت
ومع ذلك، قبل رحيله بفترة وجيزة، كانت هناك إشارات معينة تكشف عن نوايا الشاب. إشارات قد تثير الشكوك. ”ظل يعانقني ويقول أمي، أنا أحبك“، تتذكر صبرينة وهي غارقة في مشاعرها. لم تستطع أن تفهم أسباب هذا الحنان الشديد من جانب ابنها. ”كان يقول لي أبي صلي من أجلي. وكثيرًا ما كنت أراه وحيدًا في الصالون ينظر إلى البحر“. ويضيف الأب: ”نحن نواجه البحر، نعيش مع هذه الصورة كل يوم.

أحلام راسخة في الجزائر، تقطعت بسبب البحر
حتى ذلك اليوم المشؤوم الذي تغيّر فيه كل شيء، لم يكن والداه يعرفان معنى كلمتي ”حراڤة“ أو ”بوطي“. ”لم أكن أعرف سوى كلمة ’قارب‘، حتى ذلك اليوم الشنيع في 21 سبتمبر 2020، الذي غيّر حياتنا“، يوضح ”حسن“.
كان زكرياء بوبترة طالبًا مجتهدًا في جامعة الجزائر 2، حيث كان يدرس اللغة التركية، وقد عمل زكرياء بوبترة مع العديد من الوفود التركية التي زارت الجزائر. وكان قد سافر إلى تركيا عدة مرات لدراسته، وكان سائحاً في صربيا لزيارة أحد أصدقائه. وفي سن الرابعة والعشرين، كان يحلم بمستقبله الذي أراد أن يبنيه في الجزائر. تقول والدته: ”لقد رسم ابني مستقبله هنا“. كان يريد أن يتزوج وهو شاب ويحقق أحلامنا نحن, والديه“.
كان الأكبر بين ثلاثة أبناء، من بينهم شقيقتان صغيرتان، وكان يتقاسم علاقة وطيدة مع والديه اللذين يتحدثان عنه بحنان وإعجاب. تقول والدته: ”كان صديقي التام“. ” كنا نتحدث عن كل شيء. كنت دائمًا ما أقدم له النصائح، ولم يكن الأمر وكأنني كنت أتحكم فيه، بل كان الأمر أشبه بشراكة حقيقية"، يضيف والده.
فكر زكرياء في الذهاب إلى فرنسا من صربيا لفترة من الوقت، لكنه قرر في النهاية العودة إلى الجزائر لتجديد جواز سفره الذي أوشكت صلاحيته على الانتهاء. كان ينوي بعد ذلك أن يغادر بطريقة قانونية. لكن جائحة كوفيد-19 أحبطت خططه. فقد رُفض طلبه للحصول على تأشيرة دخول إلى صربيا، على عكس ابن عمه الذي كان قد قام بهذه العملية معه. ”ذهب ابن عمه علي إلى صربيا ثم إلى فرنسا، بينما لم يتمكن زكرياء من ذلك“.
فكرة الهجرة الغير النظامية
وربما في هذه المرحلة نبتت في نفسه فكرة الحرقة. وذلك عندما بدأ يعرض على والدته مقاطع فيديو لشباب جزائريين يخاطرون بحياتهم للوصول إلى أوروبا عن طريق البحر وعبور الحدود البرية لبعض الدول الأوروبية بمخاطر كبيرة. ”كان يريد أن يرى ردة فعلي“، هذا ما تفكر فيه صابرينة اليوم، إذ قالت له: ”لماذا يضحون بأنفسهم هكذا؟ لماذا يجعلون والديهم مرضى؟ يتذكر والده أنهما عندما شاهدا معًا مقاطع الفيديو تلك، كانا يتحدثان عن الأمر كما لو كان شيئًا بعيدًا، شيئًا لا يعنيهما.


شاب لامع بقلب حنون وأحلام كثيرة
كانت العلاقة بين زكرياء وعائلته أكثر بكثير من علاقة الابن بوالديه، فالعلاقة بين زكرياء وعائلته كانت قوية جدًا. يقول والده الحزين: ”لقد حقق بعضًا من أحلامي“. ”لقد أبهرني تخصصه الجامعي في اللغات الأجنبية، لقد قام بالدراسات التي كنت أرغب أنا نفسي في القيام بها، كنت أرى حلمي يتحقق من خلاله“.
يصفه والداه بأنه كان شابًا متعاونًا وكريمًا وكان يحظى بتقدير الجميع. ”بعد فقدانه ، اكتشفنا ابننا من خلال عيون الآخرين. جاء الناس لرؤيتنا ونشروا قصصهم على شبكات التواصل الاجتماعي. اكتشفنا أنه ساعد الكثير من الناس، وهي قيمة لطالما أردنا أن ننقلها إليه“. ”أخبرنا أساتذته أنه كان طالبًا ممتازًا، سواء على المستوى الأكاديمي أو على المستوى الإنساني. كل ذلك جعلهم فخورين به للغاية.
كان زكرياء متعدد اللغات، فقد كان يتقن عدة لغات، منها العربية والتركية والفرنسية والإنجليزية. حتى أنه بدأ في تعلم اللغة الصربية. ”لم يكن يريد العيش في الخارج. كان يريد أن يدرس هناك ثم يعود إلى هنا"، يقول والداه. ”خلال إحدى مناقشاتنا الأخيرة حول موضوع يتعلق بإمكانياتنا المالية، أخبرني أنه سيغادر. ظننت أنه كان يتحدث عن رحلة قانونية. لم أكن أعلم أنه كان يتحدث عن هجرة غير شرعية، فقلت له: تفضل وغادر“.
عائلة جريحة لكنها صامدة
اليوم، وبعد مرور أربع سنوات على فقدانه، تكافح الأسرة للتأقلم مع غيابه. أخته الصغرى، التي كانت تبلغ من العمر 10 سنوات في عام 2020، تشاهد مباريات شبيبة القبائل لكرة القدم، فريقه المفضل، وتقول لوالدها: ”ضع القناة الأرضية، أريد أن أشاهد، كما كان يفعل دادا (أخي). ترسم وتلصق صوره على خزانة ملابسها. أما الأخت الأخرى فغالباً ما تحبس نفسها في غرفتها لتبكي. ”أخفي حزني حتى لا تصابان بصدمة"، تقول والدتهما.



أما الأب، فيروي كيف جاءه أحد أصدقائه الذي فقد ابنه وقال له: ”كنت أفضل أن يكون ابني مفقودًا كابنك، على الأقل سيكون هناك بعض الأمل“. ” و أنا أفضل أن يكون لزكرياء قبر كي أزوره . إن انتظار المجهول عذاب“. أمنية شاركتها الأم: ”نعم، هذا صحيح.
رسالة مؤثرة للشباب
كل شيء في منزلهم هو تذكير بزكرياء. كتبه، هداياه التذكارية من تركيا، ذكريات شبيبة القبائل، إبريق الشاي الذي تستخدمه والدته كل يوم. ولإبقاء نفسها مشغولة، بدأت صبرينة التي أضعفها المرض، بتعلّم القرآن وإعطاء دروس للأطفال. ”في بعض الأحيان، أرى ابني في أحلامي يهنئني وهذا يشجعني بشكل كبير في كفاحي ضد الاكتئاب“.
أما الأب، من جانبه، فقد اتجهت يده إلى الحرف اليدوية، حيث يصنع أعمالاً من مواد معاد تدويرها. كما أنه يعطي دروساً تعليمية، وهو نشاط تطوعي يقوم به منذ 15 عاماً. ولا يزال تلاميذه السابقون يأتون لرؤيته. ”وكأنهم يشعرون بحزني. يأتون ويعانقوني ويقضون الوقت معي. وهذا يساعدني".

اليوم، تريد العائلة، التي تعتبر حياتها اليومية معركة مستمرة بين الأمل والحزن، بين الذكرى والغياب، أن تبعث برسالة قوية إلى الشباب: ”انتبهوا، أنتم تؤذون آباءكم وأمهاتكم. نحن أموات أحياء. نتظاهر بالابتسام، لكننا في داخلنا محطمون"، تقول الأم. ”أنتم تتركون وراءكم ألماً هائلاً. الحرڤة ليست حلاً"، يقول الأب.
غالبًا ما ينظر أفراد العائلة من نافذة منزلهم إلى البحر الذي أصبح أكثر من مجرد حدود بالنسبة لهم. كل يوم، تذكرهم الأمواج بشدة معاناتهم. البحر رمز الجمال والحرية، أصبح بالنسبة لهم الشاهد القاسي على فقدان ابنهم وشقيقهم زكرياء. خسارة لن يستطيعوا نسيانها أبدًا. ”كان زكرياء هدية من السماء اختطفه البحر من بين أيدينا"، يقول حسن باكيا.
دموع لا بد أنه يتشاركها مع كثيرين غيره. زكرياء ليس حالة معزولة. فمثله يختفي مئات الشباب كل عام في مياه البحر الأبيض المتوسط على متن قوارب الموت على أمل الوصول إلى أوروبا. هذه المأساة هي واحدة من سلسلة طويلة من الكوارث البشرية. فقد أصبح الممر البحري الذي يربط الجزائر بالساحل الإسباني مسرحاً لمآسٍ ”متزايدة باستمرار“، وفقاً لتقرير صادر عن الحرس المدني الإسباني الذي تم الكشف عنه في ديسمبر 2024. تطفو الجثث الملقاة على سواحل ضفتي البحر الأبيض المتوسط على طول العام. وبالنسبة لعائلات مثل عائلة زكرياء، فإن عدم وجود جثة لدفنها يجعل الحداد مستحيلاً. ووفقًا لأحدث الإحصائيات الصادرة عن منظمة Caminando Fronteras غير الحكومية، فإن ما لا يقل عن 517 شخصًا فقدوا حياتهم على هذا الطريق في عام 2024، مقارنة ب 464 شخصًا في عام 2022 و191 شخصًا في عام 2021. تطور صامت، ونزيف بشري مستمر بعيدًا عن الأضواء...
لمعرفة المزيد عن قصتهم وروايتهم المؤثرة، يمكنكم الاستماع إلى البودكاست الخاص على الرابط التالي :
كتبته ليندة عبو
في 8 ماي 2025