لم يعد المسؤول عن الحوادث هو السائق أو الحلقة الأخيرة فقط. اليوم، تمتد المسؤولية لتشمل صاحب المشروع، المقاولين، الإدارات وحتى مدارس تعليم السياقة. خطوة قانونية جديدة تهدف إلى فرض الانضباط والمحاسبة، لكنها قد تتحول إلى سلاح ذو حدين بين الردع وشلل الفعل. الجزائر تدخل مرحلة اختبار صعبة بين العدالة والفعالية.
اجتمع أعضاء الحكومة الجزائرية يوم الثلاثاء 26 أغسطس برئاسة عبد المجيد تبون، وقرّروا توسيع دائرة المسؤوليات القانونية في الكوارث المرتبطة بالطرقات والبنى التحتية. لم يعد السائقون أو المشغّلون المباشرون وحدهم معنيين، بل شمل القرار أصحاب المشاريع، شركات الإنجاز، مديريات الأشغال العمومية، هيئات المراقبة التقنية، وحتى مدارس تعليم السياقة.
جاء هذا القرار بعد مأساة وادي الحراش التي كشفت بحدة عن ثغرات في سلامة الطرق وصيانة المنشآت العامة. تسعى الحكومة إلى تجاوز منطق التعويض المالي بعد وقوع الحوادث، نحو ترسيخ مبدأ المسؤولية الوقائية قبل وقوعها.
الآثار المتوقعة: صرامة وشفافية
يحمل هذا التوسيع وعودًا إيجابية، إذ يهدف إلى تعزيز اليقظة لدى جميع الأطراف المعنية. فالمسؤولون عن المشاريع سيولون اهتمامًا أكبر لكراسات الشروط، والشركات ستتحرّى جودة المواد، والمديريات ستُشدّد الرقابة، وهيئات التفتيش ستصبح أكثر استقلالية.
كما أن هذا التوجّه قد يساعد في تتبّع أسباب الإخفاقات بدقة، مما يتيح للقضاء الوصول إلى الأسباب الهيكلية للحوادث، بدلًا من الاكتفاء بمحاسبة السائق وحده. وعلى المدى الطويل، قد يسهم هذا في تقليص عدد المركبات المتهالكة، وتحسين صيانة الطرق، وفرض معايير جديدة للسلامة.
الجانب السلبي: الخوف، النزاعات، والتكاليف
لكن لهذا القرار وجهًا آخر. فالتجارب السابقة تشير إلى أن توسيع المسؤوليات قد يؤدي إلى نتائج غير متوقعة. إذ قد يخشى المهندسون ومديرو الأشغال من الملاحقة القضائية، فيرفضون توقيع استلام المشاريع حتى لو كانت مطابقة، مما يسبّب تأخيرًا في الإنجاز.
كما أن تعدّد المسؤوليات يزيد من تعقيد العقود، فالشركات ستطالب بضمانات إضافية، وشركات التأمين سترفع أسعارها، وقد يتجنّب بعض المستثمرين المشاريع ذات المخاطر العالية. وتكون النتيجة: ارتفاع في التكاليف والمدة الزمنية، في وقت تحتاج فيه الجزائر إلى تسريع وتيرة تحديث البنى التحتية.
وقد يؤدي هذا التوسيع أيضًا إلى موجة من النزاعات القضائية، حيث يسعى كل طرف إلى تحميل الآخر المسؤولية، مما يستهلك الوقت والموارد على حساب الحلول السريعة والفعالة.
دروس من الخارج: من جنوة إلى برومادينيو
ليست الجزائر وحدها في هذا المسار. ففي إيطاليا، أدّى انهيار جسر موراندي في جنوة عام 2018 إلى محاكمة عشرات المسؤولين، وأحدث تغييرات جذرية في إدارة الطرق السريعة. وفي البرازيل، تسبّب انهيار سد برومادينيو عام 2019 في توجيه تهم بالقتل إلى كبار مسؤولي شركة التعدين «فالي»، رغم أن الإجراءات القضائية كانت طويلة ومعقّدة. أما في بنغلادش، فقد أدّى انهيار مبنى «رنا بلازا» عام 2013 إلى ملاحقات قضائية بتهم القتل، ولا تزال المحاكمات مستمرة حتى اليوم.
هذه الأمثلة تُظهر أن التهديد القضائي يصل إلى أعلى المستويات، لكن الأثر الحقيقي يكمن في تغيير المعايير: فبعد جنوة، زادت عمليات تفتيش الجسور؛ وبعد برومادينيو، تم تعزيز مراقبة السدود؛ وبعد رنا بلازا، أصبحت صناعة النسيج أكثر انفتاحًا وشفافية.
دروس طويلة الأمد
تُثبت التجربة الدولية أن القضاء وحده لا يكفي. فالمحاكمات قد تستغرق سنوات، وتنتهي أحيانًا بأحكام رمزية. لكن الخوف من تكرار المآسي يدفع الدول إلى تشديد القوانين، والشركات إلى تحسين ممارساتها. وهنا يكمن الأثر الإيجابي الحقيقي: في الجمع بين العقوبة والإصلاح.
وماذا عن الجزائر؟
في الجزائر، كانت الحاجة إلى إصلاح واضحة منذ حادثة انهيار الحاجز في ملعب 5 جويلية بالجزائر العاصمة، في 21 جوان الماضي (6 قتلى، 79 جريحًا). يمثّل قرار 26 أغسطس بداية جديدة، لكن نجاحه يعتمد على دقة التشريعات. فالنصوص الغامضة ستغرق المحاكم دون نتائج، أما الواضحة والمطبقة بشفافية فقد تفتح بابًا لتحسين شامل.
التحديات كبيرة: حوادث مميتة يوميًا بسبب سوء الطرق، غياب الإشارات، وتهالك المركبات. ولن يكون توسيع المسؤوليات كافيًا دون ميزانيات للصيانة، وتكوين، ورقابة.
المسألة أصبحت سياسية بقدر ما هي قانونية: هل سيستغل الجزائريون هذه الفرصة لمحاسبة المسؤولين؟ أم سيكتفي النظام بردود فعل شعبوية وتعويضات سريعة دون معالجة الأسباب الجذرية؟ الجواب الآن بيد المجتمع كما هو بيد القضاء.