صادق المجلس الشعبي الولائي لوهران ، في دورته الأخيرة على قرار تحويل ملكية مستشفى “بودانس” الواقع في قلب حي سيدي الهواري العتيق، إلى شركة سوناطراك، من أجل إنجاز مركز تكوين ومرافق ذات طابع اجتماعي وثقافي.
القرار جاء بحسب مصادر مطلعة، بعد اتفاق بين والي وهران، سمير شيباني، ومسؤولي سوناطراك، ويُعدّ اللبنة الأولى لمشروع واسع النطاق لترميم القطاع المحمي لحي سيدي الهواري، أحد أقدم أحياء المدينة، والذي يُعتبر ذاكرة حية تمتد لأكثر من عشرة قرون.
مستشفى بودانس: إرث معماري ينهض من رماد النسيان
ويعُود تاريخ مستشفى بودانس إلى سنة 1849، حيث بُني في العهد الاستعماري الفرنسي وسُمّي على اسم الطبيب العسكري ليسيان بودانس (1804-1857).
أين شُيِّد المستشفى على يد المهندس المعماري فوبان، واحتوى حينها على 800 سرير، في بناية تطل مباشرة على ميناء وهران وحي سكاليرا، ممتدة على مساحة تقارب 6 هكتارات.
وبعد الاستقلال، التحق بوزارة الدفاع، ثم وزارة الصحة أين تحول المستشفىـ ثم إلى مقر أمني، ثم أُهمل تدريجيًا حتى أصبح مهجورًا.

ويحمل الموقع تاريخًا أقدم من ذلك؛ فبحسب الخرائط الإسبانية لسنة 1737، كان الحي يضم كنيسة "سان برناندينو" ومستشفى صغيرًا بنيًا فوق ما يُعرف محليًا بـ”كوليزي”، قبل أن يدمرها زلزال 1791.
ويُشرف المستشفى على واحد من أجمل الخلجان البحرية، ويتوسط فضاءً غنيًا بالمعالم مثل كنيسة "سان لوي"، مسجد الباي محمد الكبير، الحمامات التركية، ساحة الجوهرة، والقصبة العتيقة.
واليوم، يُراهن على إعادته إلى الحياة كمركز إشعاع ثقافي وتكويني ضمن رؤية تنموية تحافظ على الهوية التاريخية للحي، لتنقذه من معاول الهدم و "القرارات الإدارية" البعيدة عن ثقافة الترميم.
وتزامنًا مع هذا المسعى، شهد حي سيدي الهواري أحداثًا مثيرة للجدل، حيث باشرت السلطات المحلية، صبيحة الأول من فيفري 2025، عمليات هدم لعدد من البنايات العتيقة المصنفة ضمن “الخانة الحمراء”، بعد ترحيل 176 عائلة إلى سكنات جديدة بحي 800 مسكن بمسرغين.
لكن هذه العمليات، التي طالت بنايات تقع على مستوى شارع خديم مصطفى (ستالينغراد سابقًا)، فجّرت موجة استياء واسعة لدى السكان، خاصة المجاورين للبنايات المهدمة، إذ أبلغوا عن حدوث هزات عنيفة هددت بنايات أخرى كانت قد خضعت للترميم سابقًا، من بينها مقر جريدة “الوطني”.
كما أعرب صحافيون ومثقفون و ممثلو المجتمع المدني وجمعيات حماية التراث عن سخطهم تجاه “الطريقة العنيفة” للهدم داخل حي مصنف قطاعًا محميًا بمرسوم رئاسي، ما يستوجب ـ حسبهم ـ المرور بمراحل تقنية وإدارية دقيقة، تشمل استشارة مكاتب الدراسات المكلفة بحماية النسيج العمراني.
رد الوالي: حماية الأرواح أولوية… والبُعد التراثي محفوظ
وفي ردّه أنذاك على الجدل، أصدر والي وهران، سمير شيباني، بيانًا رسميًا أكد فيه أن عمليات الهدم استهدفت بنايات آيلة للسقوط، سبق وأن صنفت ضمن “الخطر المحدق”، وشهدت سابقًا حوادث سقوط شرفات أسفرت عن إصابات.
وشدد الوالي على أن هذه الإجراءات جاءت لحماية حياة السكان والمارة، وأن المشاريع القادمة ستحترم النمط المعماري التقليدي للحي، بما يحفظ طابعه الأثري والروحي.
كما أكد في تصريحات إعلامية أن “الأولوية تبقى لكرامة المواطن وسلامته”، مشيرًا إلى أن سعادة العائلات المرحّلة بسكناتها الجديدة خير دليل على صواب هذا القرار.
ورغم تفهّمه لمواقف الرافضين، شدد على ضرورة التمييز بين الترميم الممكن والهدم الضروري، خاصة في حالات العجز عن صيانة البنايات المتداعية.
بين الماضي والمستقبل: رهان على التوازن
ويجمع مراقبون محليون أن ما يحدث في سيدي الهواري يمثل اختبارًا لقدرة السلطات على تحقيق توازن دقيق بين حماية الأرواح وصيانة الذاكرة التاريخية للمدينة.
ويأمل المهتمون بالتراث أن يشكل تدخل سونطراك بداية جدية لإعادة الاعتبار للمعالم المهجورة، في حين يظل مطلب الشفافية والاحترام الدقيق للقوانين المنظمة للقطاع المحمي أساسًا في كل تدخل عمراني مستقبلي.
ويقف سيدي الهواري اليوم، يقف على أعتاب مرحلة جديدة، يأمل فيها سكانه والمهتمون بشؤونه أن تكون صفحة نهوض، لا صفحة طمس لذاكرة مدينة تنطق حجارتها بألف عام من التاريخ.