عرفت قضية المذكرة الصادرة عن رئيس المحكمة العليا شهر سبتمبر 2024، والمتعلقة بسير العمل في غرفة الجنح والمخالفات، تطورات جديدة، تمثلت في إيداع مواطن عريضة ضد رئيس المحكمة العليا.
المدعي تيقروسين ياسر، العامل السابق في بنك الفلاحة والتنمية الريفية، صدر في حقه حكما بعام حبس نافذ وغرامة قدرها 200 ألف دينار، في قضية تعود وقائعها لعام 2013. حيث قدم بنك التنمية المحلية شكوى ضد مجهول أمام وكيل الجمهورية لمحكمة عين ولمان، إثر سحب مبلغ 715 أورو من حساب سيدة... وخلصت مصالح الشركة القضائية لتحرير محضر تشتبه فيه بتورط تيقورسين ياسر ومتهمين آخرين... وبعد استنفاذ إجراءات الاستئناف وتأييد الحكم من طرف مجلس القضاء، قدم ياسر طعنا بالنقض لدى المحكمة العليا في عام 2016. وإنتظر سبع سنوات (جويلية 2023) لتحكم المحكمة العليا بعدم قبول طعنه كون "أوجه الطعن التي تمسك بها المدعي مؤسسة مركبة، مما يخالف أحكام المادة 500 من قانون الإجراءات الجزائية".
عيوب مذكرة رئيس المحكمة العليا
ورفع ياسر تيقروسين إستدراكا ضد قرار المحكمة العليا شهر ماي الماضي، بإعتبار المادة 500 من قانون الإجراءات الجزائية حددت ثماني حالات لعدم قبول الطعن و"لا يستشف من عبارات المادة 500 ولا فحواها ما يفيد أن القانون يمنع صراحة أو ضمنيا تأسيس الطعن بالنقض على وجهين أو أكثر أو الوجه المركب"... لكن مذكرة رئيس المحكمة العليا المؤرخة في سبتمبر 2024، حددت 57 حالة ل"عدم جواز الطعن وعدم قابلية الطعن وعدم قبول الطعن شكلا".
وكانت هذه المذكرة قد أثارت إحتجاج الاتحاد الوطني لمنظمات المحامين عند صدورها، كونها تتجاوز صلاحيات رئيس المحكمة العليا ومضمونها يدخل ضمن صلاحيات السلطة التشريعية التي يخول لها الدستور صلاحية إصدار القوانين وتعديلها. كما إستغرب المحامون كيف لتطبيقة رقمية أن تحل محل القاضي في الفصل بقبول أو عدم قبول الطعن المتقاضين الذي يعتبر كذلك حق من الحقوق الدستورية المضمونة وشرط من شروط المحاكمة العادلة.
جاء نص مذكرة رئيس المحكمة العليا كالتالي: "في إطار تنفيذ مشروع رقمنة المحكمة العليا ومن خلال اطلاعنا على الإحصائيات السنوية لغرفة الطعن والمخالفات عاينا صدور عدد كبير من القرارات الفاصلة في الشكل الذي نتج عنه تأخير في دراسة الطعون المحالة على الغرفة، وعليه تداركاً لهذه الوضعية سيتم العمل ابتداءً من شهر سبتمبر 2024 في كل الأقسام بتبسيط الأوامر الخاصة بالشكل، وقد تم تجديد قائمة 57 حالة تتعلق بعدم جواز الطعن وعدم قابلية الطعن وعدم قبول الطعن شكلاً ".
تطبيقية رقمية لحسن التسيير أم لإصدار الأحكام
تضيف المذكرة "إن هذه التطبيقية تسمح بإصدار أوامر في ملفات عدم قبول الطعن على مستوى الأقسام وطريقة العمل بأن يقوم المستشار المقرر بتحديد الحالة محل القضية أما من بين الحالات المذكورة في القائمة ثم تسجيلها في التطبيق إذا كانت من الحالات المتفق عليها، أما في الحالات التي تتطلب التداول بشفافية ينبغي عليه الحصول على موافقة رئيس القسم قبل تسجيلها، وبعد تقديم النيابة العامة طلبا يقوم أمين الضبط بفهرسة الأمر وطبعه ويتم توقيعه من رئيس القسم، أما الحالات الأخرى لعدم قبول الطعن غير المذكورة ضمن القائمة فإنه يتم الفصل فيها بقرار على أن يبلغ رئيس الغرفة لإدراجه ضمن التطبيق".
وتنص الحالة رقم 18 من بين الحالات ال57 التي تتحدث عنها المذكرة على "عدم قابلية الطعن بالنقض بسبب الوجه الوحيد المركب أو الأوجه كلها مركبة"، وهي الحالة المطبقة على الطعن الذي اقدم به ياسر تيقروسين. وتطرح هذه القضية إشكاليتين: الأولى تتعلق بصدور قرار المحكمة العليا بعدم قبول طعن المدعي قبل صدور مذكرة رئيس المحكمة العليا. فهل التطابق الحاصل بين قرار المحكمة ومذكرة رئيسها هو محض صدفة أم المذكرة جاءت لشرعنة ممارسة قديمة؟ حسب محامي تيقروسين ياسر، الأستاذ عبد الله هبول، "بدأ العمل بالقائمة المنصوص عليها في المذكرة في 2023، لكن بطريقة شفهية" وهذا ما جعل غرفة الجنح والمخالفات لدى المحكمة العليا ترفض طعن ياسر تيقروسين عملا بالحالة 18 من القائمة.
مذكرة لترسيم ممارسات كانت سارية شفهيا
وتتمثل الإشكالية الثانية في هذه القضية، في كون ياسر تيقروسين "تناهى إلى علمه بأن رئيس المحكمة العليا أصدر مذكرة بتاريخ 01/09/2024 ..." وعليه قدم ياسر تيقروسين عريضة طعن من خلالها ففي مذكرة المحكمة العليا، إقتناعا أن "قضاة غرفة الجنح والمخالفات الذين سينظرون ويفصلون في الاستدراك المرفوع من طرف العارض بتاريخ 08/05/2025، ضد قرار المحكمة العليا المؤرخ في 20/07/2023، برفض الطعن بسبب الأوجه المركبة سيطبقون المذكرة المطعون فيها".
العريضة أدخلت في الخصام رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الأمة ورئيس المجلس الشعبي الوطني ورئيس المحكمة الدستورية والوزير الأول وزير العدل، كون مذكرة رئيس المحكمة العليا "تتدخل ففي صلاحيات كل هذه المؤسسات" يقول الأستاذ هبول. وتعيب العريضة الافتتاحية المقدمة من طرف المدعي ياسر تيقروسين، على المذكرة "عدم الاختصاص ومخالفة القانون" بالإضافة إلى عيب "الانحراف بإستعمال السلطة"...
ونقرأ في العريضة كذلك أن "... إسناد الفصل في الطعون في الشكل إلى قاضي فرد وبموجب أوامر في إطار إنشاء منظومة معلوماتية وإلزام قضاة غرفة الجنح والمخالفات بالامتثال لها وتطبيقها لا يعد البتة عملا توجيهيا داخليا وتوجيهيا، بل في حقيقته عمل تشريعي تجسد بإنشاء نظام قانوني جديد للفصل في الطعون بالنقض"... ما إعتبرته العريضة "خروجا سافرا" عن حدود صلاحيات رئيس المحكمة العليا و"إعتداء على إختصاصات البرلمان بغرفتيه وإنتهاكا لمبدأ الفصل بين السلطات"...
وعليه، تختتم العريضة بطلب قبول الدعوى في الشكل، وفي الموضوع "إلغاء مذكرة رئيس المحكمة العليا المتعلقة بسير العمل في غرفة الجنح والمخالفات والقائمة المرفقة بها لعدم مشروعيتها".