إنقسمت مشاعر الحضور في محاكمة الصحفي سعد بوعقبة، وقناة “رؤية” ومديرها، أمس بمحكمة بئر مراد رايس، مجلس قضاء العاصمة. فبين الارتياح لمغادرة بوعقبة السجن، والحسرة لقرار غلق القناة التلفزيونية حديثة النشأة، إضافة إلى أحكام السجن غير النافذ الذي نطقت بها المحكمة، بقي الصحفيون والمحامون والسياسيون الماكثون في القاعة إلى نهاية المحاكمة في حَيْرَة من مستقبل هذه المهنة التي أصبحت أضعف حلقة في المجتمع، وكأن العمل الصحفي في حد ذاته جريمة.
هذا الضعف برز بشكل كبير خلال وقوف الصحفي عبد الحق لَعْلَق، منشط الحصة محل المتابعة، أمام المحكمة. اسم عبد الحق لعلق ورد في مِلَفّ القضية شاهدا، لكن من خلال أسئلة المحكمة ومرافعات المحامين، اختلطت صفته على رئيسة الجَلسة التي اكتشفت، وهي تلقي نظرة على الملف، أنه غير متهم. “…أنت راك شاهد في المحضر؟” تقول السيدة الرئيسة مخاطبة الصحفي بنبرة تعجب، بعدما قضت وقتًا طويلًا في سؤال واحد: “لماذا استعملت مصطلحي ‘اختلاس’ و‘طرطرة’ في طرح أسئلتك، وماذا قصدت بذلك؟”
منشط الحصة التلفزيونية: شاهد أم متهم؟
ثم جاء دور محامي الدفاع الذين لم يخفوا إحراجهم من المرافعة في حق بوعقبة، صاحب أعمدة “نقطة نظام” و”السردوك” وغيرها من الأركان التي خطّها طيلة مساره المهني، والتي كان خلالها هؤلاء المحامون من قرّائه أو تلامذته في الثانويات والجامعات.
المحقور إذن – كما ظهر – هو عبد الحق لَعْلَق وقناته الفتية “رؤية” التي اتهمها أحد المحامين صراحة بأنها “كانت تبحث عن الإثارة على حساب أعراض الناس”. حينها اتضحت الصورة: بوعقبة سيفرج عنه، بينما قناة “رؤية” لن تعود، رغم تفاؤل مديرها حراوي عبد الحليم، خاصة وأن مقر القناة لم يُشمع كما أُشيع، بل شُمِّعت استوديوهاتها فقط، وأخبره أعوان الدرك أن الإجراء تحفظي ولا داعي لنشر الخبر.
حتى عندما نطق ممثل النيابة بالتماساته (خمس سنوات سجنًا في حق بوعقبة وعامين في حق مدير القناة)، ظل الإحساس السائد في القاعة وفي بهو المحكمة هو أن بوعقبة سيغادر سجن القليعة قريبًا، سواء بعد نهاية المحاكمة مباشرة أو بعد أسبوع أو أسبوعين في حالة تأجيل النطق بالحكم.
إرتياح لمغادرة بوعقبة السجن وحسرة على مستقبل الصحافة
حلقة أخرى في المحاكمة جعلت الصحفي فوضيل بومالة يبلغ قمة الغضب: “إنها مهزلة أخلاقية، كيف يتنازل محامو الطرف المدني عن القضية بعدما أنهوا مرافعاتهم وطلبوا التعويض بالدينار الرمزي”؟ يجيب الأستاذ بوشاشي “اختتام المرافعة بإعلان التنازل عن القضية شيء جميل من المحامي، لكن أن يتنازل ويطلب التعويض في الآن نفسه فهذا غير منطقي”. أما بالنسبة للأستاذ هبول، ف”لسنا أمام نزاع بين طرفين ولا أمام قضية قذف… نحن أمام قضية إهانة رموز الثورة. وعليه، حتى إذا تنازل الطرف المدني، تبقى الدعوى العمومية مستمرة”.
هَبّول أثار في مرافعته إشكالًا إجرائيًا آخر يعيد القضية إلى بدايتها. فبوعقبة وقناة “رؤية” وطاقمها متابعون بموجب المادة 148 مكرّر من قانون العقوبات، التي تنص على عقوبة السجن من ثلاث إلى خمس سنوات وغرامة بين 500.000 و1.000.000 دينار لكل “إهانة أو سب أو قذف بأي وسيلة ضد رموز ثورة التحرير الوطني”. والسؤال المطروح: من هم “رموز ثورة التحرير الوطني”؟
النقاش المغيب
وردت موز الثورة التحريرية لأول مرة في قانون المجاهد والشهيد في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وتم تعديلها بالقانون 99/07، الذي تنص مادته 52 على أن رموز الثورة هي: بيان أول نوفمبر، العلم الوطني، النشيد الوطني، الشهيد، المجاهد، أرملة الشهيد، مقابر الشهداء، متاحف المجاهد، المآثر والمعالم التاريخية، والساحات التي تحتوي على رموز لتلك الثورة.
غير أن قانون المجاهد والشهيد لا يتضمن أي عقوبة تخص إهانة رموز الثورة، كما لم يتم إدراج عقوبات مماثلة في قانون العقوبات من قبل الرؤساء السابقين. ويقول هبول: “تم رفع مسألة رموز الثورة إلى مستوى دستوري منذ تعديل 1996، ما يعني أن المادة 52 من قانون المجاهد والشهيد تسقط أمام الدستور الذي يحدد رمزين فقط: العلم والنشيد الوطنيين”.
هذا النقاش القانوني بحاجة إلى نقاش تاريخي أعمق، لفك النزاع المعروض أمام المحكمة بين مهدية، ابنة المجاهد والرئيس أحمد بن بلة، والصحفي سعد بوعقبة. ويفترض أن يستمر هذا الجدل أيامًا وأسابيع في وسائل الإعلام عبر بلاطوهاتها وتغطياتها من قاعة الجلسات. لكن المحكمة ومحامو الطرف المدني اختاروا الطريق الأقصر منذ البداية، إذ صرّح المحامي حفيظ تامرت أمام المحكمة أنه وزملاءه طلبوا من موكلتهم عدم ممارسة حقها في الرد المكفول بالدستور. وجاء محامٍ آخر ليقترح على بوعقبة الاعتذار مقابل التنازل عن الدعوى.
“بن بلة والدي أكثر مما هو والدك”
محامٍ من هيئة الدفاع قال بدوره: “بوعقبة مستعد ليقول لمهدية بن بلة إنه إذا فُهم من كلامه إساءة لوالدها فهو يعتذر”. وانتهت الجلسة بقول بوعقبة لها: “سامحيني… لا يمكن أن أسئ لوالدك، فبن بلة والدي أكثر مما هو والدك… البراءة لا تكفيني”.
لكن بوعقبة لم يدرك ربما اتجاه المحاكمة، التي انتهت بإدانته بثلاث سنوات سجناً موقوفة النفاذ، وغلق وسيلة إعلامية كانت يمكن أن تفتح نقاشًا تاريخيًا وسياسيًا وقانونيًا واسعًا.