في مفارقة صارخة تكشف اختلال البوصلة الاقتصادية والقانونية، اختارت الحكومة الجزائرية شنّ حملة صاخبة ضد ما كُيف على أنه “احتيال” في الاستفادة من منحة 750 أورو السياحية، بينما تواصل غضّ الطرف عن أكبر سوق غير قانوني للعملة الصعبة في قلب العاصمة: السكوار، حيث تُتداول يوميًا ملايين اليوروهات والدولارات على مرأى من مؤسسات السيادة.
سوق غير قانوني، وصف لا يختلف عليه أحد، يتوسط مقر البرلمان ومجلس الأمة، ويزاحم باعته مداخل محكمة سيدي امحمد الشهيرة، المعروفة بمحاكمتها رموز ‘العصابة’ والفساد في البلاد.
تصريح وزير الداخلية والنقل، سعيد سعيود، عن “أكثر من مئة ألف حالة احتيال” لاستغلال المنحة، لم يكن مجرد رقم، بل رسالة سياسية واضحة: الحكومة الجديدة، قررت أن تجعل من المواطن الحلقة الأضعف ساحةً لإثبات الصرامة. رقم ضخم إعلاميًا، لكنه اقتصاديًا هزيل إذا ما قورن بالكتلة النقدية الهائلة التي تتحرك خارج البنوك، خارج الرقابة، وخارج القانون.
مئة ألف حالة احتيال محتملة تعني ـ في أقصى التقديرات ـ عشرات ملايين اليوروهات. في المقابل، سوق السكوار وحده يُعتبر مرجعًا فعليًا لسعر الصرف، وتُقدَّر الأموال المتداولة فيه، وفي السوق الموازية عمومًا، بمليارات الدولارات سنويًا. هنا يصبح السؤال بديهيًا: كيف تتحول عشرات الملايين إلى “خطر على الاقتصاد”، بينما تُترك المليارات دون مساس؟
الأكثر دلالة هو تهديد وزارة العمل، ممثلة في الوكالة الوطنية للتشغيل، بمتابعة قضائية للمستفيدين من منحة البطالة إذا ثبت تورطهم في الاستفادة “الاحتيالية” من المنحة السياحية. الرسالة هنا مزدوجة القسوة: من جهة، تجريم الفئات الهشة التي تبحث عن متنفس أو فرصة سفر، دون تبرير الجريمة طبعاً.
ومن جهة أخرى، صمت كامل تجاه شبكات الصرف غير الشرعي التي تموّل التجارة الموازية، والتهريب، وتحويل الأموال، وتعيش في قلب العاصمة، بين البرلمان، مجلس الأمة، محكمة سيدي امحمد، ومقرات أمنية.
هذا التعايش الجغرافي والسياسي مع السكوار لا يمكن تفسيره بالعجز. السُلطة قادرة على التدخل، لكنها لم تُبادر. لأن السكوار ليس مجرد سوق سوداء، بل وظيفة اقتصادية غير معلنة: يمتص الطلب على العملة الصعبة الذي يعجز النظام البنكي عن تلبيته و يخفف الضغط عن الاحتياطي الرسمي. يمنع انفجارًا اجتماعيًا كان سيحدث لو أُغلقت كل المنافذ غير الرسمية.
بعبارة أوضح: السياسة النقدية للحكومات المتعاقبة تحارب النتائج وتترك الأسباب. تُطارد المواطن الذي يناور داخل منظومة مختلة، لكنها لا تجرؤ على مواجهة اختلال المنظومة نفسها: نظام صرف مغلق، بيروقراطية خانقة، وفجوة هائلة بين السعر الرسمي والواقع.
المفارقة ليست قانونية فقط، بل أخلاقية وسياسية
عندما يصبح الاحتيال الصغير جريمة وطنية، بينما يُعامل الاقتصاد الموازي كأمر واقع “متحمَّل”، فإننا لا نكون أمام دولة قانون، بل أمام إدارة انتقائية للقانون.
من الأسهل سياسيًا ملاحقة مستفيد من منحة، من مواجهة سوق يختصر فشل سياسة نقدية كاملة. ومن الأسهل رفع شعار “محاربة الاحتيال”، من الاعتراف بأن السكوار ليس انحرافًا، بل مرآة صادقة لاقتصاد يُدار بنصف قرار ونصف شجاعة.
لقد أخبرني أمس ، صديق أثق في رواياته ، أن مواطنًا جزائريًا اضطر للسفر وحصل على منحة سفر برفقة أبنائه وزوجته، ليس حبًا في السفر إلى تونس، بل لأنه اختار طريقه لتسديد مستحقات الشطر الأول من أقساط سكن ‘عدل 3’، يوفر العملة ويعود لبيعها في سوق السكوار الذي يقابل دائماً قرارات الحكومة، بالابتسامة.
ركبت منذ أيام، سيارة نقل غير قانوني ‘كلوندستان’، كانت السيارة جميلة وصاحبها حسن المظهر والهندام. سألته كم الثمن، فأجاب: ‘لا أعرف، أنا غير متعود على هذه الخدمة، فقط الظروف حتمت علي ذلك، وأنا مضطر لمضاعفة الجهد لتوفير أموال الشطر الأول من مستحقات سكنات عدل، اضعف كما كنت تدفع سابقاً.
راجعوا أنفسكم تجاه الوطن والمواطنين، رجاءً.