لطالما كان يُصفق له الجميع، واليوم أصبح مستهدفًا. في غضون أيام قليلة، انتقل وزير الاتصال محمد مزيان من شخصية توافقية داخل الحكومة إلى هدف للهجوم العلني. منذ تعيينه في نوفمبر 2024، كان يُنظر إليه كوزير، حاضر وقريب من رجال الإعلام، رغم تصريحاته المثيرة للجدل حول "تجنيد 9000 صحفي أجنبي لتشويه صورة الجزائر"، ودعوته إلى "جبهة إعلامية وطنية" للدفاع عن السيادة. تصريحات أثارت السخرية في بعض الأوساط، لكنها لم تمنع الصحفيين من التصفيق له امام الكاميرات.
شيئ ما تغيّر
منذ تنظيم ندوة حول الأمازيغية في وسائل الإعلام بباتنة في ماي 2025، تتابعت الهجمات الإعلامية والسياسية ضده. الصحفي رؤوف حرزالله، الذي مُنع من السفر، كشف علنًا أن الوزير أخبره شخصيًا أن "40٪ من الجزائريين خاضعون لإجراءات منع من السفر". الوزير نفى ذلك، لكن الشرخ كان قد حصل وصمت الرئاسة فتح بابًا لتأويلات كثيرة.
في هذه الأثناء، تحرك حزب حركة مجتمع السلم (حمس)، وهاجم علنًا طريقة تغطية التلفزيون العمومي لقضية أستاذ التاريخ محمد لامين بلغيث، موجهًا أصابع الاتهام للوزير، ومتهمًا إياه بقيادة "محكمة إعلامية". انقلب المشهد، وأصبح الوزير، الذي طالما اعتُبر أحد حماة الخط الرسمي، في مرمى نيران الحلفاء.
فما الذي حدث؟ هل تخلّت عنه السلطة العليا؟ هل تجاوز خطوطًا حمراء؟ أم أنها حملة ميئوسة للتيار المناهض للأمازيغية والمدافع عن بلغيث؟
الوزير مزيان: من الإجماع إلى الجدل
عُين محمد مزيان وزيرًا للاتصال بتاريخ 19 نوفمبر 2024. رجل دبلوماسي وأكاديمي، حازسريعًا احترام المهنيين داخل القطاع، غير أنه أبدى بسرعة أيضا قدرته على ترديد الخطاب السيادي الرسمي. ما جعل البعض يراه يمثل صوت توازن داخل السلطة.
فمنذ بداية 2025، بدأ الوزير يُصدر تصريحات صادمة. في 11 فبراير، قال في ندوة بجامعة الجزائر 3 أن "أكثر من 9000 صحفي أجنبي يشاركون في حملة لتشويه صورة الجزائر عبر العالم." تصريحه أثار السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي، وانتقدته بعض الأوساط الإعلامية والسياسية وحتى المواطنين العاديين بشدة، لكنه نال التصفيق في وسائل الإعلام العمومية والخاصة.
ثم دعا في 28 أبريل، خلال لقاء وطني بالصحفيين، إلى تشكيل "جبهة إعلامية وطنية" لمواجهة "التهديدات الخارجية". ورغم نبرته الحادة، ظل يُنظر إليه على أنه وزير حاضر، قريب من المهنيين، لا يتردد في زيارات ميدانية ويتحدث بلغة مفهومة في القطاع.
هندسة إعلامية رسمية: التلفزيون والإذاعة ووكالة الأنباء
عمل محمد مزيان في إطار بنية إعلامية رسمية قوية ومتماسكة. فالتلفزيون العمومي يُعتبر الذراع الإعلامي الأبرز للسلطة، وهو لا يكتفي بنقل الأخبار، بل يمارس دورًا في حماية الرواية الرسمية وحتى الهجوم على الأصوات المعارضة. منذ 2019، لم يُظهر التلفزيون انفتاحًا على الأصوات الناقدة، بل ساهم في تشويهها أحيانًا.
الوكالة الأنباء الرسمية بدورها تلعب دور المرجع السياسي في تحرير الأخبار، وتُحدد النغمة العامة للتغطيات. وفي قضية بلغيث، كانت الوكالة من أوائل من نشر تفاصيل التحقيق، وأطلقت وصفًا خطيرًا على تصريحاته في قناة "سكاي نيوز" ووصفتها ب "التحريض على الكراهية" و"الطعن في الثوابت الوطنية".
لكن ما لم يكن مألوفًا هو أن يُستهدف أحد وزراء هذه المنظومة بنفس الأدوات الإعلامية التي كانت تخدمه وتبدي طاعته ذات يوم.
نقطة التحول: ندوة باتنة وتصريحات حرزالله
نُظمت الندوة حول "الأمازيغية في وسائل الإعلام الجزائرية" في 7 مايو 2025، بجامعة باتنة. وهي المرة الأولى التي تطرح هذه القضية الحساسة في لقاء رسمي تحت إشراف وزير الاتصال الذي قال في كلمته "الأمازيغية ليست إضافة ثقافية، بل مكون أصيل في الهوية الوطنية."
الكلمة كانت واضحة، لكنها أتت في ظرف تجند فيه مناهضي الأمازيغية للدفاع عن أستاذهم المحبوس بسبب تصريحاته التي أنكرت الطابع الأمازيغي للجزائر. وجاء حديث مزيان ليُفهم وكأنه موقف ضد بلغيث.
بعدها بيومين، فجّر الصحفي رؤوف حرزالله االقنبلة. في فيديو على فيسبوك، كشف أن الوزير قال له شخصيًا: "40 بالمائة من الجزائريين ممنوعون من السفر." الوزير سارع بالنفي، لكن التصريح انتشر كالنار في الهشيم. بدا وكأن مزيان يعترف ضمنيًا بوجود رقابة جماعية. ومع أن حرزالله لم يهاجم الوزير مباشرة، إلا أن الأثر كان مدمرًا. للمرة الأولى، بدا أن أحد أذرع النظام الإعلامية يُسرب معلومة تزعزع استقرار وزير داخل الحكومة.
تأثير الدومينو: حمس تدخل المواجهة
في 12 مايو 2025، وخلال جلسة برلمانية، صعد النائب عبد السلام بشاغا عن حركة مجتمع السلم ليهاجم صراحة الوزير مزيان دون أن يسميه. قال: "هل نقلتم صلاحيات العدالة إلى وزارة الاتصال؟ منذ متى يُحاكم المواطنون في نشرة الأخبار؟"
كان يشير إلى التغطية التي بثها التلفزيون العمومي بخصوص توقيف بلغيث. النائب وصفها بأنها "إعدام إعلامي" و"محكمة إعلامية"، وقال إن ما حدث "تجاوز خطير للمؤسسات". الوزير ردّ عليه في اليوم التالي من سطيف، وقال: "ما قيل تحت قبة البرلمان فيه كثير من الجهل والإساءة للمؤسسات. التلفزيون نقل بيان النيابة فقط، وهذا من صميم عمله."
لكن حمس لم تتراجع. أصدرت بيانًا سياسيًا يتهم الوزير بـ"تجاوز صلاحياته" و"التعرض لممثلي الشعب"، وطالبت باحترام مبدأ فصل السلطات. ظهر أن الحزب اختار فتح جبهة صدام، ليس فقط دفاعًا عن بلغيث، بل رفضًا لما بات يُنظر إليه كـ"فرض أمازيغية مؤسساتية".
هل الوزير المُعزول؟
حتى تلك اللحظة، كان الوزير مدعومًا إعلاميًا ومؤسساتيًا. لكن منذ اندلاع الأزمة، لم يصدر أي بيان رئاسي، ولم تدافع عنه وكالة الأنباء ولا التلفزيون. اختفت أخباره فجأة من النشرات، ولم تُغطَّ تحركاته كما جرت العادة.
مصادر إعلامية قالت إن جدول زياراته تم تجميده مؤقتًا. ولم تُسجّل له أي مرافقة حكومية أو حضور لافت. يقول أحد الصحفيين: "مزيان ليس مُقالًا، لكنه أصبح وحده، يدافع عن خطاب لا يجرؤ آخرون على تبنيه علنًا."
أزمة واحدة، حقائق متعددة
كشفت قضية مزيان عن أزمة أعمق من مجرد خلاف سياسي. إنها أزمة هوية، وتوازنات، وموقع الإعلام داخل النظام. كيف يمكن لوزير أن يُصفق له حين يدافع عن السيادة، ويُهاجم حين يدعو إلى الإنصاف اللغوي؟
بين التهليل الجماعي الذي رافق خطابه ضد الإعلام الأجنبي، والهجوم المفتوح عليه عند دعوته لتثبيت مكانة الأمازيغية، تبرز ازدواجية المشهد: الوطنية المسموح بها هي فقط تلك التي لا تُربك السردية الرسمية.